29 أغسطس 2009

خواطر حول شهر الصيام..



أعدها للنشر: عبد الحليم الكناني



للأستاذ البنا في حديث الثلاثاء (كان الإمام الشهيد حسن البنا حريصًا على أن يغرس في نفوس الإخوان التفاعل الحيَّ مع ما يمر بهم من مناسبات إسلامية، يلتمسون فيها الزاد، ويتعرضون لما فيها من نفحات، ويستمدون منها طاقةً روحيةً ونفسيةً عظيمةً، ويتدبرون ما فيها من عبر وعظات، ويحولون ذلك كله إلى نماذج حية من الالتزام والحركة، وصورًا صادقةً من العمل والتطبيق..
(كان الإمام الشهيد حسن البنا حريصًا على أن يغرس في نفوس الإخوان التفاعل الحيَّ مع ما يمر بهم من مناسبات إسلامية، يلتمسون فيها الزاد، ويتعرضون لما فيها من نفحات، ويستمدون منها طاقةً روحيةً ونفسيةً عظيمةً، ويتدبرون ما فيها من عبر وعظات، ويحولون ذلك كله إلى نماذج حية من الالتزام والحركة، وصورًا صادقةً من العمل والتطبيق..
وهنا يتعرض الإمام البنا لمناسبة دخول شهر رمضان، فيفيض على حضور درس الثلاثاء بهذه المعاني العميقة عن شهر الصيام، بأسلوبه السهل السلِس، الذي يتناسب مع كل الأفهام والثقافات، ولا عجبَ أن كان يحضره صفوةُ المثقَّفين وطلاب الجامعات، مع جماهير العمال والفلاحين والحرفيين). نحمد الله تبارك وتعالى، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته إلى يوم القيامة.. أيها الإخوة الفضلاء: أحييكم بتحية الإسلام، تحيةً من عند الله مباركةً طيبةً، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. في هذه الليلة التي تجاوز ختام شعبان.. نختتم هذه السلسلة من المحادثات حول نظرات في القرآن.. كتاب الله تبارك وتعالى. هذا- أيها الإخوان- ورمضان شهر شعور وروحانية إلى الله، وأنا أحفظ فيما حفظت أن السلف الصالح كانوا إذا أقبل رمضان ودَّع بعضهم بعضًا حتى يلتقُوا في صلاة العيد، وكان شعورهم.. هذا شهر العبادة، وشهر الصيام، والقيام، فنريد أن نخلوَ فيه لربنا، والحقيقة- أيها الإخوان- أنني حاولت أن أجد فرصةً نقضي فيها حديث الثلاثاء في رمضان فلم أجد الوقت الملائم.
فإذا كنا قد قضينا معظم العام في نظرات في القرآن.. فأنا أحب أن نقضي رمضان في تطبيق هذه النظرات، خصوصًا وكثيرٌ من الإخوان يصلي التراويح، ويطيل فيها فيختم القرآن ختمةً واحدةً في رمضان، وهي طريقة بديعة، وفيها معنًى من معاني الإفاضة.. كان جبريل يدارس النبي- صلى الله عليه وسلم- القرآن كل سنة مرةً، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جوادًا سخيًّا، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يدارسه جبريل القرآن، فإذا به- صلى الله عليه وسلم- أجود من الريح المرسلة.
وظلت هذه المدارسة حتى كان العام الذي اختير فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى، فعارضَه جبريل القرآن مرتين، وكان هذا إيذانًا للنبي- صلى الله عليه وسلم- بأن هذا ختامُ حياته في الدنيا.
رمضان- أيها الإخوان- شهر قرآن، يقول فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ، منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه.. قال: فيشفعان" (رواه الإمام أحمد والطبراني).
أيها الإخوان.. إن في نفسي فكرةً أحب أن أتحدث فيها.. ولما كنا على أبواب شهر الصوم فليكن الحديث منثورات وخواطر حول شهر الصيام، فاحرصوا- أيها الإخوة- على أن تكون قلوبُكم مجتمعةً على الله- تبارك وتعالى- في ليالي هذا الشهر الكريم، فإن الصوم عبادةٌ احتجزها الله- سبحانه- لنفسه "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به".
وذلك يشير يا أخي إلى أن كل الأعمال التي يقوم بها الإنسان فيها نوعٌ من الفائدة الظاهرة الملموسة، وفيها كذلك شيءٌ من حظ النفس، فقد تعتاد النفس الصلاة فيكون من حظِّها أن تصلي كثيرًا، وقد تعتاد الذكر فيكون من حظِّها أن تذكر الله كثيرًا، وقد تعتاد البكاء من خشية الله فيكون حظُّها أن تبكي كثيرًا.. أما الصوم- يا أخي- فليس فيه إلا الحرمان، وهو بريء من كل الخطوات، فإذا كنا سنُحرم من أن يلقَى بعضنا بعضًا، فإننا سنسعد كثيرًا بمناجاة الله- عز وجل- والوقوف بين يديه تعالى، خصوصًا في صلاة التراويح. وتذكروا أيها الإخوان دائمًا أنكم صائمون امتثالاً لأمر الله- تبارك وتعالى- واجتهِدوا أن تصاحبوا ربَّكم بقلوبكم في هذا الشهر الكريم؛ فرمضان- أيها الإخوان- شهرٌ فاضلٌ حقًّا، وله منزلةٌ كبرى عند الله - تبارك وتعالى - أشاد بها في كتابه الكريم ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة: 185).. والآية هنا- يا أخي- تجد في آخرها ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾.. فالصيام فائدة لا ضررَ فيها، وقد رتب الله على إكمالها هدايةً منه لعبده، فإذا وفَّقك الله لإكماله في طاعة الله كانت هداية وكانت هدية تستحق الشكر وتكبير الله على تلك الهداية ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، ثم انظر يا أخي إلى ما ترتب على هذا كله ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186). هنا يا أخي ترى أن الحق- تبارك وتعالى- قد وضع هذه الآية في هذا الموضع ليدل على أنه- تبارك وتعالى- أقرب ما يكون لعبده في هذا الشهر الفاضل، ولقد ميَّز الله تعالى شهر رمضان، وجاءت فيه الآيات والأحاديث.. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النيران وصفدت الشياطين، ثم نادى مناد من قبل الحق تبارك وتعالى- يا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير هلمَّ".. فضائل رمضان فتحت- يا أخي- أبواب الجنة لإقبال الناس على الطاعة والعبادة والتوبة فيكبر أهلوها.. وصفدت الشياطين أي غُلَّت؛ لأن الناس سيكونون منصرفين إلى الخير، فلا تستطيع الشياطين شيئًا.. فأيام رمضان- يا أخي- وليالي رمضان هي مواسم تشريفات من قبل الحق- تبارك وتعالى- ليزداد المحسنون فيها إحسانًا، ويتعرض المسيئون فيها لفضل الله- تبارك وتعالى- فيغفر الله لهم، ويجعلهم من المحبوبين المقرَّبين. إن أفضل فضائل هذا الشهر الكريم، وأكرم خصائصه وغرره، أن الله- تبارك وتعالى- قد اختاره ليكون وقتًا لنزول القرآن.. هذه ميزة امتاز بها شهر رمضان؛ ولهذا أفردها الله- تبارك وتعالى- بالذكر في كتابه، فقال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ﴾ (البقرة: 185).
وهناك رابطة معنوية وحسية بين نزول القرآن وشهر رمضان.. هذه الرابطة هي كما أنه أنزل القرآن في رمضان، فقد فرض فيه الصيام؛ وذلك لأن الصيام معناه حرمان للنفس من شهواتها وأهوائها، فهذا انتصار للمعنى الروحي في النفس على المعنى المادي فيها، ومعنى هذا- يا أخي- أن النفس الروحية والفكر الإنساني ستتخلَّص في رمضان من مطالب الجسم ومقومات الحياة البدنية، فالروح الإنسانية في هذه الحالة على أصفى ما يكون؛ لأنها مشغولةٌ بالشهوات والأهواء.. وتكون أكثر ما تكون استعدادًا للفقه والتلقي عن الله- تبارك وتعالى- ولهذا كانت قراءة القرآن أفضل العبادات عند الله- تبارك وتعالى- في هذا الشهر الكريم رمضان .
أيها الإخوان: أراني مسوقاً إلى التذكير برمضان، ونحن على أبوابه، وبما يجب أن نشتغل به فيه، فهو شهر البركات والرحمات والسرور، وما أولى الناس أن يقفوا وقفة قصيرة يستعدون للقائه، وما فيه من خيرات، فهو الوقت المعظم في الجاهلية، وقد زاده الإسلام تعظيماً، جاء الإسلام فشرفه وأكرمه، وأنزل الله فيه القرآن هدى للناس، فما أحوجنا أن نهنئ أنفسنا، ونشعرها بحق رمضان قبل أن نلقاه.
أيها الإخوان: إن الله تبارك وتعالى جعل هذا الشهر معظماً، فاختصه بمزايا كثيرة، وجعله مرحلة من مراحل الحياة الثمينة، ومحطة من محطات السير فيها على النهج القويم، يصرف المسلم فيه أعظم همته إلى الله، ويتجه فيه بكليته إلى آخرته، السمو بروحه قبل مادته، فهو شهر الروحانية وصفاء النفس والمناجاة والإقبال على الله، والاستمداد من القوي العلي الكبير، والاتصال بالملأ الأعلى، وهو شهر له خصوصيته: “ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ “ .
وهناك لفت نظر جميل، ومتعة رائعة جليلة، تلك هي توصيل هذه الآية بأخرى: “ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ”. ثم تتلو هذه الآية آية أخرى: “ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن “ .
تأتي هذه الآية الكريمة خلال أحكام الصيام: “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم “. ثم: “ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم “ . في استطراد واستحكام يتصل بالصيام، ثم يأتي الله تعالى بين هذه الأحكام بهذه الآية الكريمة: “ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ”. معنى جليل هو أن الحق تبارك وتعالى يحثنا على مناجاته والسؤال في وقت تكون النفوس فيه أقرب ما تكون إلى ربها “ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ “، بإصابة الحق ونيل الرشد. فشهر رمضان سؤال ومناجاة وهداية ورشاد ليعد الصائم فيه نفسه، ويبعدها عن خلط المادة، لترقى بشريتها، وتتصل بربها.
وقد وردت الأحاديث لتلفت أنظار الناس إلى فضيلة هذا الشهر وعلو مكانته، وشرف أيامه، وجزالة التوبة فيه، مما يهيب بالمسلمين أن يعدوا أنفسهم ويجهزوها لملاقاته، ويشعروها بأن التجارة فيه رابحة، والأوقات التي ستجتازها أوقات غالية، وأن الفرصة فيه سانحة (يا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير هلم) وليذكروا أنفسهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد). احرصوا أيها الإخوان على أن لا يمر بكم وقت بغير عمل صالح، وإذا غفلتم فاستدركوا، فقد لقي حنظلة – رضي الله عنه – أبا بكر الصديق، فقال: يا أبا بكر لقد رأيت حالي في حال المنافقين .. فقال: ولم ؟ .. قال حنظلة: ألسنا حين نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ترق أرواحنا وترقى نفوسنا، فإذا انصرفنا عنه تبدل الحال غير الحال ؟ .. فقال أبو بكر: هلم بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنتم كما عندي لصافحتكم الملائكة، ولكن ساعة وساعة). فعلاج الغفلة التذكر والتبصر والاتصال بالله تبارك وتعالى: “ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ “ فإذا مس الشيطان قلوبنا بمسيس الغفلة، وفوت علينا من رمضان نصيباً من الخير، فعلينا أن نجد السير وبنذل الجهد، ونقبل على الله: “ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده “.
فليتجهز الإنسان بدوام التوبة والاستغفار، ومراجعة صفحات الماضي، فما وجدنا من خير حمدنا الله عليه، وما وجدنا من شر أقلعنا عنه بالتوبة إليه: (يا باغي الشر أقصر). وإذا كان صلى الله عليه وسلم يتوب في اليوم مائة مرة، وهو كما تعلمون قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما بالكم بمن أحاطته المعاصي من كل جانب، وانغمس في لذاته وشهواته، فواجبنا أن نكثر من الاستغفار ونحن على طهر، ونتوجه إلى الله في إيمان كامل وإخلاص صادق، طالبين منه تعالى أن يهيئنا للقيام بالأسباب: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ “. فالتوبة النصوح، والتوجه الصادق بالرجوع إلى الله تعالى من أسباب الفوز التام يوم القيامة، ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم “ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً “.
فاجتهدوا من الآن بالتطهر من أدران الذنوب والمعاصي، فستقابلون شهر رمضان، وفضل الله فيه واسع منه في غيره، لتهيئوا نفوسكم لهذا الواجب العظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (من جاءه رمضان ولم يغفر له فيه فلا غفر الله له). والشقي من حرم فيه رحمه الله عز وجل. فالواجب تذكر النفس بفضل هذا الشهر، وإعدادها للعمل فيه، فقد ندبت إلى أعمال كثيرة وواجبات غالية، من صيام وصلاة وذكر وتلاوة لكتاب الله، الذي يطهر النفوس ويحيى القلوب، قال صلى الله عليه وسلم:(الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ويدرسه على جبريل في شهر رمضان مرة، وقرأه عليه في السنة الأخيرة مرتين، ودعوتكم دعوة القرآن، وأنتم تقولون: القرآن دستورنا، فشهر رمضان دعوتكم، فأكثروا من تلاوة القرآن، وتدبروا في معانيه، فإنكم تجدون له حلاوة تتجدد بتجدد تلاوته مهما كنت حافظاً، وتجدون له تأثيراً عجيباً إذا قرأتموه بإمعان، ولا تحاولوا أن تفهموه بتعمق وبحث مضن، بل اقرأوه كما قرأه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قراه على هذا الوجه كان له بكل حرف عشر حسنات، والله يضاعف لمن يشاء، ومن استمع إلى آية من كتاب الله كانت له نوراً وبرهاناً يوم القيامة.
واعلموا أن هذا الشهر شهر الصدقات والزهادة في المادة، فأكثروا من مواساة الفقراء والمساكين، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، ثم اجتهدوا أن يكون لكم فيه عمل تلازمون عليه، واحرصوا على صلاة التراويح، فنحن نصليها بالقرآن كله ثماني ركعات، وصلاة التراويح من السنن المؤكدة، ومن شعائر شهر رمضان ومن مميزاته وخصائصه، فهي ظرف يتصل فيه قلب المسلم بربه، وكان صلى الله عليه وسلم يأتيه جبريل في رمضان فيعرض عليه القرآن، لأن رمضان صيام بالنهار ويناسب أن يكون شهر قيام بالليل، والقيام تناسبه الصلاة.
ثم إنكم في رمضان ترقبون ليالي كريمة، يفيض فيها الخير فيضاً، فليلة يوم السابع عشر، يوم الذكرى الجليلة التي اجتمع فيها النصر النظري والنصر العلمي في غزوة بدر، يوم التقت الفئتان: “ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ “ .
وليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، بل العشر هي من ليالي التجلي، فروضوا فيها أنفسكم، وجردوها من علائق الدنيا، وأقبلوا على الله بالصلاة والمناجاة والإلحاح في الدعاء، فإن الله يحب الملحين في الدعاء، ومن كان في فراغ فليعتكف فيها ولا يخرج إلا لحاجة ملحة، فهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ بها الصالحون، أم المشغول فلا أقل من أن يعتكف فيها بالليل، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أقبل العشر الأواخر من رمضان شمر المتزر، وقام الليل، وأيقظ أهله. واعملوا أن الصلة في رمضان مطلوبة في طاعة الله لا في اللهو واللعب، ولكن الناس عكسوا، فجعلوه شهر غفلة ولهو ولعب، فمنهم حجرة يتلو فيها كتاب الله ثم يهجرونه إلى حجرة أخرى يتكلمون فيها بما يشاؤون ويشتهون، معرضين عن السماع والتدبر.
مرّ ابن مسعود رضي الله عنه على جماعة خرجوا إلى عرض الطريق فقال لهم: أصحاب محمد كانوا يتزاورون في الله، فقالوا: ما أخرجنا من بيوتنا إلا التزاور في الله، فقال لهم: أبشروا، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لا تزالون بخير ما تزاورتم) فعليكم معشر الإخوان أن تجعلوا هذا الشهر موسم عبادة تتقربون فيه إلى الله وأن تنهجوا فيه نهج السلف الصالح رضي الله عنهم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
-------------------------------------------

ليست هناك تعليقات: