29 أغسطس 2009

وحدة المصدر والهدف ...


بقلم: عبد الواحد محمد علي



جلستُ يومًا ما على شاطئ النهر أتاملُ حركة الماء المتدفق في اتجاهٍ واحدٍ دون انقطاع، تأملتُ طويلاً في هذا النسيج المتناهي تنسيقًا وانسجامًا.

إنها كميةٌ لا تعدُّ ولا تُحصى من جزيئات الماء التامة التماثل، الكاملة التشابه، الشديدة التلاحم، المتحدة الوجهة، ظللت أتابع تيار الماء فلم أجد أي انحراف، كل الماء من جهةٍ واحدةٍ يأتي، وإلى هدفٍ واحدٍ ينطلق، فقلتُ لنفسي هذا هو النموذج الأمثل لما يجب أن يكون عليه العمل الجماعي، فلم ألحظ أن جزءًا من تيار الماء اتجه فجأةً إلى اليمين أو إلى الشمال مهما تعرَّض للضغوط، فعندما مرَّت سفينةٌ وسط النهر تدافع الماء مكوِّنًا موجاتٍ كلها في اتجاهٍ تأثري واحد للحدث، فالماء الذي على يمين السفينة تدافَع إلى اليمين ثم عاد هادئًا ساكنًا ينطلق إلى وجهته في وقار، والماء الذي على شمال السفينة تدافع شمالاً، وما لبث أن عاد كما كان، فقلت هكذا يكون التفاعل مع الحدث لجموع العاملين لهدفٍ واحدٍ لا يغير من أصل حركتهم أي شيء وإن بدا ظاهريًّا أنه يُحدث تموجاتٍ هنا أو هناك.

عجيبٌ تيار هذا النهر، وما أشبهه بالعمل الجماعي النموذجي أو ما ينبغي أن يكون عليه العمل الجماعي!!، يحتويه وعاءٌ واحد، يأتي الماء إلى النهر من روافد متعددة يحمل معه كل خصائص المكان الذي انحدر منه، وما إن يأخذ طريقه في مجرى النهر حتى يندمج بكل كيانه في وعاء النهر المتدفق في اتجاهٍ واحد، ويحمل الخير كل الخير للناس كل الناس، لا يرد سائلاً ولا يبخل بعطاء، ويحمل عن الناس إساءاتهم ويذهب بها بعيدًا ويُخلصهم منها هناك؛ حيث يصبُّ ما تبقَّى حاملاً أوزار الناس إلى بحرٍ مالح يُطهره من أدران الناس، ليعود بعد أن يتبخَّر إلى السماء مطرًا زكيًّا، ماءً زلالاً، وهكذا الجماعة الربانية تحمل للناس الخير وتحملهم عليه من المنبع إلى المصب، تحمل إليهم الوحي، وتصحبهم إلى النهاية وتعاود الكرة طوال العمر لا تكلُّ عن مهمتها ولا تنحرف عنها، طالما استمسكت بالحق الذي آمنت به وابتُعثت من أجله والهدف الذي تعمل له.

وفرق كبير بين الذي ينظر إلى النهر من بُعد ومَن يغوص فيه، قد يجد في النهر قشًّا أو بعض ما لا يحب، ولكن سيظل النهر متدفقًا بكل شيء حي نافع، مصدره واحد من السماء، ومصيره واحد إلى السماء، فهو وإن كان يجري على الأرض لكنه يجري مترفعًا إلى السماء، وقد يشوبه ما يسيء إلى نقائه ظاهريًّا، ولكنه ينقِّي نفسه بنفسه، ومهما حدثت له في مجراه حادثات أو ظهرت فيه ملوثات إلا أنه كما جاء من مصدره نقيًّا قويًّا فإنه يمضي إلى هدفه نقيًّا فلن يتبخَّر ويصعد إلى السماء إلا الماء.

وألقيتُ في النهر حجرًا فتناثر الماء، وأصابني بعض الرذاذ، ولاحظتُ حول نقطة وقوع الحجر في الماء دوائر موجية تتسع وتتسع حول موضع الحجر، فرأيتُ الحجر وهو يُحدث أثره في الماء، فرأيت أن للماء ردَّ فعل لهذا الارتطام، غاية في العبرة والتناسق، لكنه كان تفاعلاً في قمةِ التناسق حول الحجر فجميع النقاط المحيطة حول الحدث قد أدَّت دورها في التفاعل مع الحدث بنفس الدرجة بلا أي فرقٍ، وكأنَّ الدوائر الحادثة حول مكان الحجر قد رسمها مهندس حاذق غاية في الدقة.

أما أجزاء الماء التي تطايرت من فعل ارتطام الحجر فإنها عادت إلى النهر؛ لأن الذين يعايشون نهر الجماعة المتحد المصدر والهدف، لا يبتعدون عن مجراهم ونسيجهم الأصلي، ومهما حاولت أية قوة أن تُبعدهم فإنهم يعودون ما دامت طبيعتهم التكوينية كما هي، إنها سنة الله في الخلق والتكوين، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت: من الآية 53).

وقبل الغروب جلستُ أتامل سكون ماء النهر وهدوءه وانسيابيته، فتذكرت أنَّ الله يصف الجنة أنها تجري من تحتها الأنهار، ولم يقل سبحانه تجري من تحتها البحار؛ لأننا نشعر برهبةٍ ونحن نرى ونسمع زمجرة البحر الهصور، ونشعر بالاطمئنان والسكينة في وداعةِ النهر الوقور.

وحين نظرتُ إلى السماء هالني منظر السحاب الثقال تطير فوق الرؤوس، إنه نفس الماء وربما كان على نفس الأرض التي نقف عليها، فسبحان مَن أجراه تحت أقدامنا بإرادته وطيَّره فوق رؤوسنا بقدرته، نظرتُ إلى السحاب وهو يرعد ويبرق، فقلتُ أيها الماء ألستَ أنت ذاك الوديع الطيف في مثل هذا النهر الضعيف؟، مالي أراك الآن تُهدد وتتوعد وتزمجر وتلقي بالشرر هنا وهناك؟ هل نحن أغضبناك؟!

نعم كم أسأنا إليك كثيرًا عندما أتيتنا منسابًا سلسًا هادئًا فلوَّثناك وحمَّلناك أدراننا، والآن نرتعد من وعدك ووعيدك، فربما تهطل مطرًا نافعًا مثمرًا، وربما تسيل سيلاً عنيفًا مدمرًا، وعلى أية حال ينزل ماؤك نعمة لأناسٍ أو نقمة على آخرين، وهكذا حركة جماعة المؤمنين فإنها تُزكي وتتبنَّى الطائعين الصالحين، وتؤدب البغاة الظالمين، فإن لم تكن كذلك أو تحاول أن تكون فإن نهر حياتها سيجف ويعبث في مجراه العابثون.

ليست هناك تعليقات: