28 يونيو 2010

عشر حكم من مونديال كرة القدم

ليس من عادتي ركوب الأمواج ولو كانت مما تسبح فيها الفكر والأحلام، فضلا أن يكون الموضوع من بنات الأرجل والأقدام، لكن هذه اللعبة الشعبية صارت سببا تلتقي معه غايات العالم في العديد من المجالات، من السياسة إلى الإعلام ومن الاقتصاد إلى الاجتماع، ومن الهندسة إلى الإبداع. وهكذا صارت تظاهرة كأس العالم إحدى تجليات العولمة بكل ما تحمله من معنى، ومع تعدد الوسائط الإعلامية صار الحدث لا يعني اللاعبين أو من يحضرون لدعمهم من المشجعين والفضوليين، بل صار محطة أنظار الملايير من المتتبعين من العوام والمتخصصين، وحين لم ّأجد مناصا من حضور هذا الحدث الرياضي الإعلامي السياسي وربما الحضاري !!


وبما أنه فرض علينا نفسه إن في الجريدة أو الشاشة أو الشبكة العنكبوتية أو في الساحة أو المقهى أو المنزل، فوجدت نفسي أفكر على ضوئه في بعض معضلاتنا الفكرية في واقعنا الدعوي تكوينا وتنظيما، مجبرا أن أتمعن في بعض المشاهد علني أعثر عما يصنف في خانة "الحكمة ضالة المؤمن انى وجدها فهو أحق الناس بها" وما أن أطرقت متمعنا في بعض أخبار المونديال حتى تفاعلت ووجدت نفسي متتبعا باهتمام ونظري لا يركز إلا للأمام، وربما استغنيت بكأس الشاي عن الأكل والمطالعة لولا صيحة المؤذن ووجوب أداء الفريضة خلف الإمام!!
ومما أعجبني في مونديال كرة القدم ما استفدته من بعض الحكم التالية:


1- الحكمة الأولى: قوة التنظيم في إبداعه

نجاح اللعبة وضمان الفوز مرتبط بقوة الفريق التنظيمية بإحكام، ولكن العجيب في هذا التنظيم أنه لا ينزعج من الذين يبرزون، أو يبادرون بالإنجاز، ولكن أهمية هذا التنظيم وما يملكه من دقة وقواعد معلومة، أنه يكشف أي تقصير من عنصر فيعرضه للتويج من الجمهور، أو العقوبة من الحكم، أو الإقصاء من المدرب، عكس التنظيم خارج كرة القدم والذي قد يكون أول ضحاياه المبادرون بالإنجازات أو المتميزون في الأداءات بحجة التجاوز، أو القفز على المراحل، أو حتى لا يصاب الفرد بمرض الغرور والعياذ بالله!!
في حين لا أحد من داخل التنظيم يجرؤ على المطالبة بطرد علان الكسلان اوفلان التعبان!! وكأن ضعف الأداء داخل الصف الحركي مكفول، عكس ما في الملعب حيث التصفير ودق الطبول!!

2- الحكمة الثانية: الفاشل يستقيل


المدرب الفاشل في هذه المعركة الحاسمة لا يشفع له كم مرة حمل على الأكتاف، ولا من يحميه من وجهاء القوم في مؤسسات الدولة، أو ما يتترس به من المبررات والأعراف، لأن هذه اللعبة تلغي الخصوصيات جميعها، فالفائز يرفع ذكره، ويعلو سهمه، والفاشل لا مجال لسماع مبرراته أو إعطائه الفرصة، لأن المداولة في هذا المحفل لها لغة وحيدة، هي الفوز بالنقطة والهدف، والاتصاف بالأداء المحترف. وحين تابعت توالي استقالة المدربين الفاشلين قلت سبحان الله!! لماذا لا تنتقل هذه المكرمة إلى قطاع الدعوة لمنهج رب العالمين!! حتى لا يزيد الكلام وتتطور سيناريوهات الكتاب، وأصحاب الأقلام، وتتشوه الأفهام، ويتجذر سلوك الانتقام، وتهدد الكيانات بالانقسام، وينصرف الكرام، ولا يبقى في الكيانات سوى ضعاف النهى والأحلام! أليس في مشهد هذه التظاهرة ما يصح لعلاج كثير من الأسقام؟!!

3- الحكمة الثالثة: الحكم على الأداء لا شكليات الولاء


هنا اتفاق الجميع في إصدار الحكم على الأداء، فلا تشفع الشكليات لأحد، فكثيرا ما يهتز الجهور من أدناه إلى أقصاه ومن مختلف جنسياته مصفقا ومعجبا بأداء ذلك الإفريقي الذي كأن رأسه زبيبة، ولكنه-اي الجمهور- يصفر ويزمجر ساخرا من رداءة سلوك ذلك اللاعب الأوروبي صاحب العين الخضراء والبشرة الشقراء، لأن الجميع لا يقدر إلا الجودة في إتقان اللعبة، وأعجبني الجمهور البرازيلي حين ثار ضد أداء فريقه وهو لم ينهزم ولكن لانه لم يعجبه الأداء، وهنا أجد نفسي متسائلا لماذا في الحركات الإسلامية لا زالت ساحة الأداء لا اعتبار لها إلا في القليل، فلا زال جمهور الحركة الإسلامية –في البلدان العربية- ربما الأولوية عنده في اختيار القائد أو الداعية هو الأطول لحية، أو الأرفع صوتا، أو الأكثر مالا أو الأكثر خطابة!! فمتى يصبح إتقان اللعبة مقدما على شكل الهندام أو شقشقة الكلام؟!!

4- الحكمة الرابعة: البطولة للفريق والنجومية للفرد


فرغم أن قانون المونديال يجعل الكأس من نصيب الفريق الذي ينجح في التصفيات بين الفرق، إلا أن هذه اللعبة أتاحت مجالا لا يهمل حساب الكفاءات الفردية، فتحسب الإنجازات في نهاية المطاف لأصحاب الكعب الذهبي، والأداء المتميز، فيبرز أحسن هداف، وأحسن مدافع، وأحسن حارس...الخ. فلم لا تكون التنظيمات في الحركة الإسلامية مجالا يقدر العطاء لأصحابه، ويختفي"أسلوب" البطولة كلها للقائد والفشل كله بسبب القاعدة.
حتى صارت الأحزاب الإسلامية وهي لا تزال متلبسة بهذه الحالة إذا وجدت مجالا للمشاركة السياسية فبمجرد أن تقدم عضوا لوزارة ما، فإما أن تراعي نرجسيته أو يقول لها إلى اللقاء!! والحركة الإسلامية في كل من العراق، والأردن، والجزائر، والسودان، كلها شواهد على ما أقول!!!
والمؤسف أيضا في الحركات الإسلامية من يحاول قلب القاعدة، فينسب البطولة للأفراد، أما الكيان الذي يفترض فيه أن تحكمه عقيدة الفريق، فيسير بطريقة القطيع، وما وجدنا في نموذج كرة القدم في هذا المونديال من أنجزوا بطولات للاعبين بفرق منهزمة!!

5- الحكمة الخامسة: سيادة الأخلاق


أعجبني قداسة الأخلاق في هذه اللعبة حين نلاحظ ألمع النجوم الكروية يغادر الملعب في أحوج ما يكون فريقه إليه، ببطاقة حمراء من الحكم، لا تقبل المراجعة. لا لشيء سوى لأنه أخل بخلق من أخلاق اللعبة المتفق عليها، والمعقول في دنيا الناس أن المحاكمة لا تتم إلا بمداولة لأن "لصاحب الحق مقالة" لكن قانون الكرة يستثني المداولة في الحكم الأخلاقي، فهل يجوز أن تستعير الحركات الإسلامية هذا القانون لتطبيقه على كل قيادي عبث بمبدأ الأخلاق في سلوكه السياسي أو المالي أو التنظيمي؟!! فالحركة الإسلامية ليس في رصيدها شيء أغلى من الأخلاق!! أم أن الأخلاق ميدانها خطب الوعظ وليس قرار الإدارة؟!!

6- الحكمة السادسة: الوفاء


ما أجمل أن يدخل عناصر الفريق مرددين نشيد أمتهم بصوت واحد، فإذا ما فازوا على خصمهم رفعوا راية واحدة، أوليس طريق الدعوة يحتاج إلى صراحة في المنطلق (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) وحين الانتصار يجير الانجاز لمن يستظلوا بتلك الرايةكلهم، والوفاء لمن حرروا الوطن أو أسسوا الجماعة صاحبة الراية.
فقد شاع في الحركة الإسلامية من ينطلق معلنا شعارها "الجهاد سبيلنا" ثم لا يلبث أن يبوح في منتصف الطريق بأن لغة الجهاد لا تناسب العصر، والمغالبة لا معنى لها إلا في التفكير القديم!! وأحسب أن هذا المبدأ الكروي في الوفاء معني به أصحاب رسالة الدعوة إلى الله، حتى لا يغتر أحد بانجازه (أن أتبع ملة إبراهيم حنيفا) وكثيرا ما انطلق أحد في ركاب دعوته معلنا هدفه السامي: العمل على عودة الخلافة الإسلامية، فما أن يسير به الركب قليلا حتى يصبح يرى بل ويصرح بأن الخلافة الإسلامية أو الدولة الإسلامية لا معنى لها وقد تخلى عنها تماما، لأنه يرى في الواقع الذي يعيشه بحكم المنصب أو الأبهة ما يحجزه عن المغامرة بما في يده قبل أن يحقق الهدف الذي انطلق من أجله، ويبدو لي أن رجلا اسمه حسن البنا أدرك قانون اللعبة وأخلاق المتلاعبين، فكتب لأتباعه الذين جمعهم في بداية القرن الماضي نشيدا مطلعه "الله غايتنا" وجعل لهم راية خضراء بها مصحف يحضنه سيفان فرحمة الله على الملهمين.

7- الحكمة السابعة: الالتزام


الالتزام بلباس معين طول المقابلة وعدم تغيير الألوان لحظة مخالطة المنافسين، سلوك يجعل من المروءة مقياسا للجودة في أداء المهمة، وأعجبني تعليق الإعلاميين بأن من ينزع لباسه الرسمي أو يكشف عن جسمه لحظة تسجيل، أو نشوة بانتصار، يعاقب حتما حسب القوانين التي رسمتها الاتحادية الدولية في السنوات الأخيرة، فتمنيت أن تقتبس الحركات الإسلامية هذا المعيار وتسن قوانين تنظيمية لا تتسامح مع كل من حاول تغيير لونه الحركي، أثناء تأديته واجبه في عهدته الوزارية أو النيابية، فالتزام اللاعب باللون المتفق عليه طيلة المباراة نبهني إلى حجم الألوان التي يمر بها بعض قادة الحركات الإسلامية والسياسية منهم خاصة، فيدخل الداعية خطيبا ثم يصير رجل أعمال، ثم فنان، وإذا لم يسعفه الحال يتغير إلى "رقيولوغ" فاللهم لطفك.

8- الحكمة الثامنة: عرض البضاعة لحظة الانتباه


لفت انتباهي وأنا أتابع الإعلام كثرة العروض من الفن إلى الفولكلور، من الأكل إلى اللباس، بل من العروض الإيديولوجية إلى الرموز.
وكيف وظفت المسيحية وهي التي تؤجر أكثرمن سبعة آلاف قناة للتبشير في إفريقيا التي ترى أنها أكبر منطقة تتقبل طقوس التمسيح، وظفت هذه التظاهرة من خلال الصليب الذي وضعته على صدر "مارادونا" اللاعب الأرجنتيني الرمز، لتغرس في لاعبي ستة مليارات من البشر رمزها الديني، فسبحان الله لماذا لم نسمع عن عرض فني عن رسالة الإسلام يثير ضجة في جنوب إفريقيا التي دخلها الإسلام عن طريق تجار شمال إفريقيا ومن الطريقة الصوفية الجزائرية التجانية، فمتى تتقن حركاتنا قيمة الدعوة عن طريق توظيف الرمز الصحيح وعرض بضاعتنا الحضارية لحظة الانتباه العالمي؟!

9- الحكمة التاسعة: لحظة المعركة تظهر أهمية التاريخ والجغرافيا


لم يكن العديد من شعوب العالم يعرفون عن شعوب مناطق أخرى لصغر أقاليمها أو لحداثة عهدها ولكن لحظة بروز فريقها المشارك في معركة عالمية كهذه يلتفت إليها الانتباه ويبدأ التنقيب عن تاريخها وهويتها.
وفي معركة المونديال لاحظنا كيف صار البرازيليون يستعرضون عضلاتهم ويعرف الكثير أهمية هذا القطر الشاسع أكثر من 8 ملايين كلم² وأكثر من 200 مليون نسمة، فريقنا الوطني الجزائري هو الأخر بتعادل أمام انجلترا فتحركت البحوث في ثورة المليون ونصف المليون من الشهداء، أثيرت قضية شعب لم يعرف توقفا للحروب والمعارك الجهادية طوال تاريخه.
بل سمعنا بأن الأداء الرائع للفريق الوطني كان من أسبابه أن المدرب برمج للاعبيه ليلة المقابلة فيلم "معركة الجزائر" الشهير والمؤثر، فانطلق اللاعبون كأنهم "محاربي الصحراء" حقيقة، خلافا لما عاشوه قبل بعض المقابلات التي انهزموا فيها لأنهم باتوا يتناقشون مع مشرفيهم في حجم المكافأة وكم يكون نصيب الذي يسجل هدفا، والذي يصد هجوما...الخ
وهنا تحضرني شهامة الأتراك حينما استشعروا زخم تاريخهم أيام الخلافة الإسلامية فهاهم يكتسحون مساحات نصر دبلوماسي وسياسي واقتصادي، جعلهم في مقدمة الدول الزاحفة نحو التطور بل والتي حجزت مكانة محترمة في وجدان الأمة الذي لا يزال بكرا.
فهل ندرك أن الحركة الإسلامية التي لا تستشعر تجربة دعوية أو زخما تاريخيا تستند إليه يكون مآلها الفشل لا محالة لأن الذي يفقد الآركة المحفزة لا شك أنه يصطدم بصخرة المطامع والمكاسب، وهذا ما وقع ويقع للدعاة الحالمين بالسيادة دونما حلم يبرهن عن نخوتهم بشرف الوفاء للسلف الشريف ، وكما قال المفكر الإسلامي قديما: (من هنا يجب أن نعلم).

10- الحكمة العاشرة: اختلاط الفريقين في ميدان واحد لا يعيق انتصار الأقوى


مما أعجبني في هذه اللعبة أن تمازج الفريقين على غير طريقة الجيوش التي تنفذ خططها الحربية بالمخادعة تارة وبالمواجهة المادية تارة أخرى، ولكن الصفين دوما متجابهان دونما اختلاط، ولكن في هذه اللعبة ان صاحب الرؤية والخطة ومن ثمة الإرادة القتالية يستطيع أن يحقق النصر بعديد الأهداف كما يستطيع أن يحفظ كرامة شباكه ونظافته، وهو سلوك أعجبني لو أن الحركات الإسلامية تعمل به ولعل هذا ما قصده سيد قطب رحمه الله في تعليقه على مواقف من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، بحيث ركز على المفاصلة الشعورية للصف المؤمن، مع المخالطة الميدانية، مما يحقق النصر لصاحبه وهزيمة الآخر، ربما على أكثر من جبهة . فليتنا أتقنا لعبة المشاركة السياسية كما أتقنها الرياضيون، فاختلاط عناصر الفريق المغير مع عناصر النظام القديم أو عناصر فريق الفساد لا يمكن إلا أن يكون لصالح أصحاب الرؤية والخطة والإرادة. بطبيعة الحال في معركة التغيير لا نجاح لفريق منظم ما لم تكن النية والقصد خالصين لله تعالى. فشكرا للمونديال الذي جعلني استفيد من متابعته كالآخرين، ولكن على طريقتي وليس بتبديد الوقت كما يتفرج الكثير من الفضوليين.

ودوما بالفهم نرتقي وعلى المحبة نلتقي.

الأستاذ عبد الله بوحامد

ليست هناك تعليقات: