16 يونيو 2010

مرحبا بعودة الشيخ

لا شك أن الترحاب بكل صديق عائد خلق كريم، ولا ريب أن الترحاب بعودة المربي والمعلم مما تزيد الشريف شرفا والكريم نبلا. مرحبا بعودة الشيخ حين عاد في ذكراه هذه الأيام، حتى وإن كنت اعتقد أنه قلق لانخفاض العمل وارتفاع منسوب الكلام، وتزاحم المحتمين بشعاراته وإغفال فكره عن ساحة الاهتمام.
وإذ أرحب بك شيخا فاضلا وعالما عاملا وحركيا مبدعا، فإنني لا اكشف سرا إن قلت لك أني وأمثالي استهوانا حبك وغشيتنا الصدمة بفقدك، فعبرنا عن الحب ترديدا للمناقب، وحاولنا الوفاء من خلال تعليق الصور في المكاتب، وزعمنا اقتفاء نهجك فلم نحفظ من السياسة سوى رفع المطالب!! وليس لنا من حفظ علاقاتك الدبلوماسية سوى الألقاب وحمل الحقائب!!
مرحبا بك وأنت الذي تعودنا منك اتساع الصدر وقبول الاعتذار، وأنت الذي قدمت جمهرتنا للمناصب على ما تملكه من سبق واقتدار. دعنا شيخنا نكمل بك الترحاب، وأنت الذي لا يغلق في وجهه باب، ولا ينزل به ركاب. دعنا نصارحك، فليس لنا عذر وأنت تعلم كم يحمل لنا رفيقك وخليفتك الشيخ مصطفى من عتاب!!
دعني أقول لك أننا حسبنا أننا تعلمنا منك الكثير في حياتك ولم نجد لحظة وفاتك سوى الترحم والترجيع، لكننا وبعد السبع العجاف ندرك أن وفاتك مثل سلوكك في التربية والتكوين كانت تعليما عن طريق الصدقة، وكونك غادرتنا على عجل فصار منا الكثير لم تهبه الصدمة علوا في الهمة بل تغيرت عند بعضهم قداسة المهمة!!
فمعذرة إن كانت صدمة الصحب الكرام عند فقد قائدهم لم تتجاوز ثلاثة أيام، لكنها عندنا تجاوزت سن الفطام، وبعدها وجدت حالنا ليس على ما يرام!! أجل لا يزال في مدينتك التي ترعرعت فيها كثير من الكرام، ومن تلامذتك عبر الوطن من استعادوا الهمة واجتهدوا في ّإعلاء صرح المقام.
السياسة في بلادنا حالها بعدكم تعيس، والاقتصاد رغم ثروات الأرض لا يزال بئيس، عائدات البترول تسمع عنها التراكم والتكديس، الشعب يختنق، نسأل الله اللطف لحظة يحدث التنفيس، العمل الإسلامي في الكثير من الأحيان احترف المتاجرة بقضايا الأمة واستعمل الأسلوب الرخيص، والأسرة الثورية نسيت هذه الأيام أمجاد ثورتها وذكرى استقلالها لأنها مشغولة بفريقنا الرياضي الذي يحمل العديد من أعضائه جنسية الفرانسيس، أما مشروع أكبر مسجد في الجزائر ففي كل سنة تخصص له ميزانية ولكن لم توضع فيه لبنة واحدة، كإعلان عن نية التأسيس !
عفوا أيها الشيخ اعرف أنك لا تطيق الإطناب في الكلام إلا بقدر ما يقتضيه المقام، ولكن دعني أبدد حيرتك، وأتفهم غضبتك. لقد فتح العديد أعينهم على الساحة الإسلامية فوجدوك مربيا حكيما وواعظا فهيما، ثم سياسيا محنكا يحارب الفساد، ويحمي خيرات البلاد. فانجذب الشباب إليك، وسمع الكبار لك، وأنت تعلم أن كثيرا من الزعماء إذا نبغوا في الاجتهاد ركن القوم خلفهم إلى الرقاد، وأنت تعلم من بقي خلف بومدين في تسيير البلاد في الجزائر، ومن خلف الملك فيصل في السعودية في قضية فلسطين، وأنت تعرف ياسر عرفات ولا يملك من خلفه سوى كلمة "مات"!! إنني أدرك أنه يقلقك كثيرا صوت المتحصرين على وفاتك المبكر رغم اختيارك عمر سيد المرسلين. وانزعاجك من المرثيات، لأنك تعلم قبلنا، لو كان الرثاء هو معيار الوفاء لصار الجبناء ورثة الزعماء!!
لكننا اليوم ندرك أنك لم تكن من طينة الذين يطيب لهم العيش في دنيا المستضعفين، وهمهم رغد العيش وزخرف الدنيا والحرص على تأمين مستقبل البنات والبنين!! وأنت الذي كنت تترنم بأبيات الشاعر التونسي الذي غادر الحياة شابا لم يتجاوز السادسة والعشرين:


سأعيش رغم الداء والأعداء *** كالنسر فوق القمة الشماء


أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا *** بالسحب والأمطار والأنواء


لا أرمق الظل الكئيب ولا *** أرى ما في قرار الهوة السوداء


كما كنت تردد أيام الكبت السياسي أبيات هذا الشاعر الشاب الثائر فكنت قيروانيا بامتياز:


إذا الشعب يوما أراد الحياة *** فلابد أن يستجيب القدر


ولابد لليل أن ينجلي *** ولابد للقيد أن ينكسر


وقد كنت من على منبر الجامعة في كرسي مادة التفسير لا تخفي هيامك بالشعراء الثائرين والقادة المغيرين رغم المواجهة التي كانت أمامك في معركة أحداث المتدينين، فتبعث الهمة في نفوسنا ونحن آنذاك شبابا حالمين. وقول المتنبي على لسانك:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتكبر في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
فما أروع نبرتك حين خالطتها حكمة الأدباء من العراق!! والمتنبي هو الآخر لم يتم الخمسين من عمره، ولكنه أتم الحكمة في فنه! لا تأسر الحسرة من أدرك سعة نشاطك واتساع أثرك ولو أتعبت من بعدك، لأنك لم تكن ترصف كلاما ولكنك تشفعه بالمواقف، وما خروجك لخرق نظام الطوارئ وفي الجزائر وأنت العائد من رحلة المرض في بداية هذه العشرية وأنت لا تكاد تقوى على الوقوف أمام ترسانة الشرطة الرادعة من أجل تضامنك مع المرابطين في فلسطين إلا دليل حرارة لطالما عبرت عنها بلسان شعراء العصر الذهبي ممن لم يطل بهم العمر، ولكن كبر فيهم العمل. فكم واجهت المتخاذلين عن القضية بحجة المفاوضات وكنت تردد قول أبي تمام:


السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب


بيض الصفائح لا سود الصحائف *** في متونهن جلاء الشك والريب


فمرحبا بك يا شيخ حين تعود، ومرحبا بك حين تختار الخلود، أوليس رحيلك الباكر كنبوغك الباكر، فدائيا كنت أم أديباـ أم داعية أم قائد وزعيما.
لأنك كنت وفيا لثورة الجزائر الكبرى ضد الاستعمار البغيض فلم ترد مخالفة الأسلاف الذين أنجزوا وغادروا باكرا فلا ابن باديس قدوتك في الإصلاح تجاوز الخمسين ولا الفضيل الورتلاني –وأنت المعجب به في خدمة قضية فلسطين- تجاوز الستين. وأنت الفدائي المغرم ببطولة العقيد عميروش الذي لم يتجاوز الثلاثين وابن مهيدي الذي أركع فرنسا ولم يعش أكثر من أربع وثلاثين. إن عظيما هواه من طينة هؤلاء الأخيار الزعماء والحكماء لا عجب أن يترجل قبل وداع الأتباع والمحبين. وكأني بك تمثلت قول شاعر المغرب والأندلس جميعا:


إنا وفي آمال أنفسنا *** طول وفي أعمارنا قصر


لنرى بأعيننا مصارعنا *** لو كانت الألباب تعتبر


أي الحياة ألذ عيشتها *** من بعد علمي أنني بشر


خرست لعمر الله ألسننا *** لما تكلم فوقنا القدر


رحمة الله على الشيخ محفوظ نحناح، ودوما بالفهم نرتقي وعلى المحبة نلتقي.

أ. عبد الله بوحامد

ليست هناك تعليقات: