27 سبتمبر 2009

الوفاء بعد رمضان


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد..
ها قد انتهى رمضان، ضيف حلَّ، ثم ارتحل، ربح فيه مَن ربح، وخسر فيه مَن خسر؛ لكن بقي على كل واحدٍ منا أن يقف الآن وقفةَ محاسبة ومساءلة.. هل استفاد من شهر رمضان أم لم يستفد؟

فالله عز وجل قد فرض علينا الصيام فصمنا، وسنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم القيام فقمنا، لكن أينتهي الأمر بالمسلم إلى هذا الحد؟ صيام، وقيام، وزكاة، وضروب من الطاعات، ثم ينتهي رمضان، فينتهي الأمر، ونعود كما كنا قبل رمضان؟!!، فعندما يأتي رمضان نجد المساجد قد امتلأت عن آخرها، وينتهي رمضان ونُفاجأ أنَّ الذين كانوا يحافظون على الصلاة قبل رمضان هم كما هم، كأننا لم نخرج من رمضان بفائدة؟ كأننا لم نخرج من رمضان بثمرة؟ الوعاظ والمحدثون والخطباء طوال الشهر يقولون (لعلكم تتقون)؛ فهل حصَّلنا التقوى في أنفسنا؟ هل انتفعنا من صيامنا وقيامنا وتلاوتنا للقرآن في رمضان فغيَّر شهر رمضان من حياتنا؟

نحن نريد أن نقف الآن بعد رمضان لنعقد صفقةً مع خالقنا عز وجل صفقة أن نكون أوفياء، صفقة بعهود ثلاث من الوفاء، هذه الصفقة عقدها أناس قبلنا، وفُّوا لله فيها فنصرهم الله عز وجل بها، كان قوام هذه الصفقة: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾ (التوبة).. وهذا ما نريده صفقة بعهود ثلاث من الوفاء حددت ملامحها هذه الآية.

1- وفاء مع الله:
كوفاء العبد الأسود مع ربِّه، والعجيب في الأمر أن صاحب هذا الوفاء لا يُعرف له اسم إلى الآن، كل ما نعرفه عنه أوصاف؛ عبد أسود، غلام أسود، راعي غنم، رجل من الأعراب، هذا كل ما نعرفه عنه، ظهر واختفى في تاريخ الإسلام في ساعةٍ من نهار، كأنه ما جاء إلا ليعلمنا كيف نكون أوفياء مع ربنا عز وجل.

والحديث كما رواه الإمام النسائي (عن شداد بن الهاد رضي الله عنه: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزاة، غنم النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسمٌ قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: "قسمته لك"، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمي إلى هاهنا- وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت، فأدخل الجنة، فقال: "إن تصدق الله يصدقك"، فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- يُحمل قد أصابه سهم؛ حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أهو هو؟"، قال: نعم، قال: "صدق الله فصدقه".

ثم كفَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته التي عليه، ثم قدمه فصلى عليه، وكان مما ظهر من صلاته: "اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك، فقتل شهيدًا، أنا شهيد على ذلك" (رواه النسائي). نعم وفاء مع الله عز وجل أن نكون بعد رمضان ربانيين لا موسميين كوفاء هذا العبد الأسود مع ربه.

2- وفاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كوفاء سعد بن الربيع- رضي الله عنه- مع نبيه صلى الله عليه وسلم والحديث، كما يرويه كُتاب السير "ففي يوم أُحد ظهرت ملامح هذا الوفاء على أرض الواقع، فهذا سعد بن الربيع رضي الله عنه لما أشاع ابن قمئة- أقمأه الله- أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بعد قتله لمصعب بن عمير رضي الله عنه، وكان مصعب رضي الله عنه أحد القلائل الذين يشبهون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما شاع الأمر بين المسلمين ألقى بعضهم السلاح وجلسوا ينتظرون الموت، كما قالوا فمر عليهم سعد بن الربيع- رضي الله عنه- فقال لهم: ما أجلسكم؟ فقالوا: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: وما مات رسول الله؟ إن كان مات رسول الله فقوموا وقاتلوا وموتوا على ما مات عليه رسول الله، لا مدينةَ لكم بعد اليوم، ثم انطلق إلى المعركة فاعترض طريقه سعد بن معاذ- رضي الله عنه-، فقال: إلى أين يا ابن الربيع؟ فقال: واهًا يا سعد والله إنها الجنة ورب الربيع.

فلما وضعت الحرب أوزارها قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "من يأتيني بخبر سعد بن الربيع"، فبحثوا عنه فوجدوه في الرمق الأخير، فقالوا له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويقول لك: كيف أنت؟ فقال: أبلغوا رسول الله مني السلام وقولوا له: إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خير ما جازى نبيًّا عن أمته، ثم التفت إلى أصحابه، وقال لهم: أبلغوا مَن خلفكم من أهل المدينة أنه لا عذر لكم عند ربكم إن خلص إلى رسول الله أذًى وفيكم رمق.

وهذا النداء والله لكل واحد منا الآن.. لا عذر لكم عند ربكم إن لم توفوا مع نبيكم، إن خلص إلى رسول الله أذى وفيكم رمق، وفاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رمضان؛ أن نكون أوفياء مع رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3- وفاء مع دين الله:
كوفاء أبي عقيل الأنيفي- رضي الله عنه-، والحديث كما يرويه الإمام ابن سعد في الطبقات الكبرى "أخبرنا جعفر بن عبد الله بن أسلم الهمداني قال: لما كان يوم اليمامة، واصطفَّ الناس للقتال كان أول الناس جرح أبو عقيل الأنيفي- رضي الله عنه-، رمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده فشطب في غير مقتل، فأخرج السهم ووهن له شقه الأيسر لما كان فيه، وهذا أول النهار، وجر إلى الرحل فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجازوا رحالهم وأبو عقيل- رضي الله عنه- واهن من جرحه سمع معن بن عدي- رضي الله عنه- يصيح بالأنصار: الله الله.. والكرة على عدوكم، وأعنق معن- رضي الله عنه- يقدم القوم؛ وذلك حين صاحت الأنصار: أخلصونا أخلصونا، فأخلصوا رجلاً رجلاً يُميزون.

قال عبد الله بن عمر- رضي الله عنه-: فنهض أبو عقيل- رضي الله عنه- قومه فقلت: ما تريد يا أبا عقيل؟ ما فيك قتال، قال: قد نوه المنادي باسمي، قال ابن عمر- رضي الله عنه-: فقلت: إنما يقول يا للأنصار لا يعني الجرحى، قال أبو عقيل- رضي الله عنه-: أنا رجل من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حبوًا.

قال ابن عمر- رضي الله عنه-: فتحزم أبو عقيل- رضي الله عنه- وأخذ السيف بيده اليمنى مجردًا، ثم جعل ينادي: يا للأنصار كرة كيوم حنين- ويوم حنين كما نعلم هُزم المسلمون فيه في أول الأمر لما أعجبتهم كثرتهم، فلم تغنِ عنهم شيئًا، ووقف النبي صلى الله عليه وسلم يومها، ونادى نداءين اثنين لم يفصل بينهما بفاصلٍ نظر إلى يمينه وهو يقول: "يا للأنصار يا أصحاب بيعة العقبة"، ثم نظر إلى يساره وهو يقول: "يا للأنصار يا أصحاب بيعة العقبة" فاجتمع الأنصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتصر بهم- الرجل لم ينسَ يوم حُنين فخرج زاحفًا، وهو ينادي يا للأنصار كرة كيوم حنين- فاجتمعوا رحمهم الله جميعًا يقدمون المسلمين دربةً دون عدوهم؛ حتى أقحموا عدوهم الحديقة، فاختلطوا، واختلفت السيوف بيننا وبينهم.

قال ابن عمر- رضي الله عنه-: فنظرت إلى أبي عقيل- رضي الله عنه- وقد قطعت يده المجروحة من المنكب فوقعت الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحًا، كلها قد خلصت إلى مقتل وقتل عدو الله مسيلمة، قال ابن عمر- رضي الله عنه-: فوقعت على أبي عقيل- رضي الله عنه- وهو صريع بآخر رمق فقلت: أبا عقيل، فقال: لبيك، بلسان ملتاث، لمن الدبرة؟ قال: قلت أبشر، ورفعت صوتي، قد قُتل عدو الله، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات يرحمه الله.

قال ابن عمر- رضي الله عنه-: فأخبرت عمر- رضي الله عنه- بعد أن قدمت خبره كله فقال: رحمه الله ما زال يسأل الشهادة ويطلبها، وإن كان ما علمت من خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، وقديم إسلام.

هذا هو ما نريد أن نخرج به بعد رمضان أن نكون أوفياء مع ربنا عز وجل كوفاء العبد الأسود مع ربه، أوفياء مع نبينا صلى الله عليه وسلم؛ كوفاء سعد بن الربيع- رضي الله عنه- مع نبيه صلى الله عليه وسلم، أوفياء مع ديننا كوفاء أبي عقيل الأنيفي- رضي الله عنه- مع دينه.

هذه عقود وفاء ثلاث نريد أن نخرج بها من رمضان، وهو ما نوهت عليه آية الصفقة ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ﴾، وفاء مع الله، ﴿وَرَسُولِهِ﴾ وفاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ﴾ وفاء مع دين الله ﴿فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.

إن استطعنا أن نخرج بها نكون قد انتفعنا من صيامنا وقيامنا وتلاوتنا للقرآن وعبادتنا في رمضان.

أحبتي في الله..
أولئك آبائي فجئني بمثلهم** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم** إن التشبه بالكرام فلاح


أسأل الله العلي العظيم أن يجعلني وإياكم من المقبولين في رمضان، وأن يرزقني وإياكم الوفاء بعد رمضان، وأن يعيده علينا جميعًا أعوامًا عديدةً وأزمنةً مديدةً، وأن نكون فيه من الفائزين.. تقبَّل الله منا ومنكم، وكل عام أنتم بخير.
-------------
* من علماء الأزهر الشريف

ليست هناك تعليقات: