29 سبتمبر 2009

التّغييـــر المنشــــود

من الأمور التي يعرفها الجميع أن الدعوة لهذا الدين من فروض الأعيان، لإيجاد الشخصية التي تمثله عقيدة وأخلاقا، ولإيجاد المجتمع الذي يلتزم بالإسلام فكرا وسلوكا، ثم لإيجاد الدولة التي تطبقه شريعة ومنهاجا، وتعمل له كدعوة هادئة لإقامة الحق والعدل، إن هذا العمل العظيم لاستئناف الحياة الإسلامية في كل صورها من الفرد إلى المجتمع إلى الدولة إلى إشاعة العدل وإحقاقه ونشر تعاليم الإسلام في ربوع المعمورة، وما يحتاج إليه من طاقات وتبعات وما يترتب عليه من محن وابتلاءات يفرض على الغيورين على دينهم العمل لإقامة حركة بعث لروح الإسلام لتبدد ظلم الجاهلية، حركة واعية واضحة المعالم وذلك لاستئناف الحياة الإسلامية، وتعبيد الناس لله في معتقداتهم وأخلاقهم ونظمهم، إذا كان هذا هو العمل! وهذا ما يتصل به! وهذا ما يترتب عليه، فما هي مواصفات الحركة الواعية المؤهلة لهذه الرسالة العظيمة وما هو قبل ذلك تعريفها.
.
تعريف الحركة الواعية:
هي تجمع عقدي عضوي حركي منظم، تشرف عليه قيادة رشيدة تجمع بين فقه الشرع وفقه الواقع، وتملك مؤهلات الاستيعاب والتجميع -على أساس العقيدة والمبادئ– لكل الفئات الاجتماعية على اختلاف أفكارها وتصوراتها ومستوياتها، وتمثله قاعدة إسلامية متينة، تكون الواقع الفعلي الحي لمقتضيات الإيمان ولشريعة القرآن، وحتى يتسنى لهذا التجمع الحركي أن يستأصل مظاهر الجاهلية بكل أنواعها، وتكون الانطلاقة سليمة، والرؤية واضحة والهدف محددا، يجب ما يلي:
*وضوح الولاء: الحركة التي لا تعمل من خلال خطتها الدعوية ونهجها التربوي على تأصيل عقيدة الولاء في نفوس أتباعها، حركة تحمل بذور فنائها في مهدها، وإن بناءها على غير أرضه الأصيلة كالذي يبني بناءْ ضخما على الرمل، يوم تتعدد الرايات وتختلف الزعامات.
إن الحركة لابد أن تعلم أبناءها في أول الطريق أن لا ولاء ولا مودة إلا لله ورسوله والمؤمنين، وبدون الولاء الذي هو المحبة والنصرة وارتياء المصلحة للمسلمين، فإن الحركة تنحرف عن مسارها نتيجة لغلبة النفس فتميع الحركة فكرة ومنهجا وتاريخا بين الولاءات النفعية المعادية للإسلام تارة والمحسوبة عليه تارة أخرى.
.
*رسم التصورات المستقبلية: فبدون تصورات مستقبلية تبني الخطة بناءْ على أساس العقيدة والواقع والمرحلة فإن خلطا في الأوراق سيكون، وإن انحرافا عن النهج الأصيل سيقع، وابتعادا عن الهدف سيحدث، ويتأخر الوصول سنوات طوالا.
ففهم الذات وفهم الواقع المعاش وتصور المستقبل المنشود هي أركان التصور السليم للتغيير وإذ كيف يقدم الإنسان بضاعته للناس دون معرفة حقيقة ما بها؟ وماذا يريد؟ وبماذا يبدأ؟ وكيف يحقق ما يريد؟ (كما حدث للطرماح بن عدي الذي قدم بضاعته اللغوية للناس فقال اسألوني في غريب اللغة، فسكت الناس وتكلم أحدهم فقال: ما هو الطرماح؟ فبهت ولم يجب رغم أن الكلمة تعنيه أولا) فهو لا يعرف معنى اسمه ويتقعر في اللغة.
فكيف نريد الوصول إلى الهدف دون أن نفقه الواقع بكل مكوناته الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية، حيث لا يمكن إلغاء المتردي الموجود والبحث عن المثالي المفقود بغير دراسة واعية، إذ كيف نريد تغيير الواقع المتردي دون وضع معالم واضحة للمستقبل المنشود، فلا يكفي رفع شعار الإسلام دون عمل جاد وخطة محكمة، ومنهج سليم وأي خلل في هذه الأركان التغييرية يؤدي لا محالة إلى الارتجالية في العمل والاستبداد في وضع القرار ولو كان المصير مشتركا والضرر متعديا.
.
* إيجاد البديل الإسلامي: وهذا في كل شيء، فالمجتمع المنشود الذي هو هدف الحركة الإسلامية إسلامي لا شرقي ولا غربي فمن الإسلام يستمد تشريعه وبالإسلام وشريعته يضبط معاملته، فمبدأ نقد الواقع والثورة عليه والدعوة إلى مقاطعته أمر لا يكفي ولا يأتي ثماره المرجوة منه، فلا بد على الحركة الواعية من العمل بجد لإيجاد البديل الإسلامي في الإعلام والاقتصاد والتعليم والثقافة، أما الهدم بلا بناء فكالكفر بلا إسلام.
.
* ترتيب الأولويات: إن العمل الإسلامي بغير فقه الأولويات سير في الظلام الحالك دون معرفة بالطريق، فموضوع الأولويات من المواضيع التي ينبغي أن تشبع بحثا ودراسة والحركة الواعية بالواقع، المتفائلة بالمستقبل بحاجة إلى ترتيب الأولويات حتى لا تهدر الجهود هدرا، وتصطدم الحركة بنواميس الكون الغلابة فتفشل وتبقي المنكر قائما فتزيد من حدته وتتسع دائرته على حساب الحق وأهله.
إذا بماذا نبدأ؟ وبما نبدأ؟ وكيف يتم ذلك؟ ونؤكدها هنا أن احتمال المنكر مدة معينة أيسر من مجازفة متهورة تفشل وتبقيه بل تقويه، والدعوة فن، والصبر عليها جهاد، ورد الفضل فيها إلى الله من أفضل القربات وانتظار النصر منه من أعظم السنن.
.
* تصنيف الأعداء: إذ تصنيف الأعداء يسهل على الحركة الواعية معرفة مكونات الواقع وتركيباته الاجتماعية والثقافية والسياسية والعقدية ومعرفة أفكار وأهداف كل واحد، ثم تحديد طرق التعامل مع كل صنف بشكل محدد فلا يوضع الكل في خندق واحد، حتى تمضي الحركة في طريقها دون ضجيج ولا ضوضاء، دون إلغاء ولا إقصاء إذا اقتضى الحال وكان ذلك مصلحة في الدعوة والحركة، فلا مداهنة ولا مداراة على حساب العقيدة والحركة.
* الجمع بين الأصالة والمعاصرة: أي نصا ثابتا وفكرا متجددا، وهذا يعني مواكبة الحركة الواعية للعصر والتفتح على الغير، ومسايرة للتطور والاستفادة من التجارب السابقة، دون تنازل عن المبادئ والأهداف، فالإسلام عقيدة وعبادة وجهاد وخلق كما هو نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، فالذين الذي لا يفتيك في كل شيء لا يكون هو الإسلام أبدا وإنما هو [دين الملوك] والله عز وجل أوصانا في آخر سورة "الكافرون" أن نقول للملوك –الذين لا يدينون بدين الحق- [لكم دينكم ولي دين]
.
* التزام الشرعية: إن التحرك في الإطار الذي تسمح به القوانين حتى ولو كان صادرا عن النظام الذي كان ظهور الحركة أصلا من أجل القضاء عليه وإزالته وتعويضه بدستور إسلامي، وخاصة إذا كانت الحركة في مرحلة التكوين التأسيسي الذي يكون خمائر التغيير ورواحل الحركة ومحاور الولاء الصادق، والتزام الحركة بالشرعية الدستورية هو الضمان الوحيد لعدم وقوع الفتنة التي طالما أرادها أعداء الحل الإسلامي الذين يريدون أن تفصح الحركة عن نفسها دون نمو طبيعي يؤهلها للقيادة والريادة، ودون تجذر الحركة في أعماق المجتمع والانبثاث في قطاعاته الحية ليبدأ التغيير الحقيقي.
فتسود الفوضى فيختلط الحابل بالنابل والحقائق بالأوهام، فلا يمضي الإسلام طويلا حتى يتعثر لأنه خط مستقيم، أما الإيديولوجيات الأخرى فترفض لأنها خطوط معوجة لا تعمل ولا تنشط وتنتعش إلا في الاعوجاج لأنهم كما وصفهم القرآن الكريم [ويبغونها عوجا].
.
ملاحظة: تمت كتابة هذا المقال بعد إعلان التعددية سنة 1988م، ونشر أول مرة في العدد 11 من مجلة التضامن عام 1993م.
مولد قروج
-----------------------------

ليست هناك تعليقات: