15 أكتوبر 2009

الـقـيـم فـي تـحـول ..والـفـقـر مـسـتـقـر

في هذا الشهر من كل سنة يحلو لشعوب العالم أن تراجع أرقامها المالية ومداخيلها الفردية والقومية، ولعل اجتماع البنك وصندوق النقد الدوليين مؤخرا باسطنبول لا يخرج عن هذا الإطار، ولذلك تضمن هذا الشهر يوما خاصا بالتغذية في العالم، ويوما عالميا لمحاربة أو مكافحة الفقر، والذي يصادف السابع عشر من شهر أكتوبر.
.
وإذا كانت شعوب عديدة تتلهف لمعرفة الأرقام والمؤشرات التي تطالعها بها الوكالات المهتمة بخريطة الفقر وموازين النمو محليا وإقليميا ودوليا، بحيث تفرح ببعدها عن نقاط الفقر السوداء وبؤره الساحقة، فإننا للأسف لا يمكن أن نتوقع مبارحة لخريطة الفقر، بل ما نخشاه في هذه المناسبة أن نجد المؤشرات العالمية تضعنا في مؤشرات أسوأ، ولا وجود لعلمنا الوطني في المؤشرات الإيجابية، منذ أيام تابعنا بعض مظاهر الفرح لدى دول من العالم الثالث وهي تراقب تحسن وضعها وتطور أدائها، إن في جنوب إفريقيا أو بعض الدول الخليجية أو ماليزيا مثلا أو في أمريكا اللاتينية مثل فنزويلا والبرازيل، التي تابعت جماهيرها لحظة الفوز بثقة العالم في كفاءتها حين اختيرت كأحسن دولة مؤهلة لاستضافة أكبر عدد من جماهير العالم للاستمتاع بمرافقها وبيئتها وجمال طبيعتها وحيوية سكانها، في الألعاب الأولمبية 2016م.
.
عندنا فقر .. أم نحن فقراء
.
لعل الكثير منا يعلم أن شعوب العالم العربي كانت انتفاضتها على الفقر مبكرة منذ بضعة قرون، ولعل الجدل الذي ثار بين المدارس الأيديولوجية والسياسية في الغرب انتج مذاهب ومناهج اشتهرت بفكرتين أساسيتين: أحدهما ترى أن فيه فقرا دائما في الشعوب والمجتمعات وجبت محاربته بالتضامن والتعاون وتوزيع الثروة وغيرها، والأخرى ترى أنه لا وجود للفقر مطلقا، وإنما فيه فقراء أنتجهم الكسل، ثقافة الريع، المحاباة، وإهمال الإنسان لقدراته الذاتية، وقواه العقلية.
.
ومن هذا إلى ذاك لم تتوان المجتمعات اليقظة في ادخار أي جهد من أجل مقولة علي رضي الله عنه (لو كان الفقر رجلا لقاتلته بسيفيولكن حين ننظر في واقعنا الجزائري اليوم أليست هناك طاقات شبانية بالآلاف معطلة؟! أليست هناك آلاف الهكتارات الصالحة للزراعة متروكة بورا؟!! أليست المساحات الواسعة في الجبال أو على شواطئ البحار، في الصحراء أو التلال، أليست في جمالها ما يستحق الإبداع في الحرف والمنتوجات وإغراء السائح المتنقل من داخل الوطن والآتي من الخارج؟!! أليس في تربيتنا الدينية وثقافتنا الوطنية ما يجعل مجتمعنا أكثر حكمة وترشيدا في الإنفاق من أجل ضمان وفرة الضروريات بدل السقوط في الكماليات التي أوصلت الشباب إلى السرقة والإجرام وأكل الحرام؟!!
.
أليس في تقاليدنا وثقافتنا الوطنية ما يثمّن فينا روح التضامن في بناء الأسر مثلما بادرت بعض الجمعيات بتنظيم الزواج الجماعي لعشرات ومئات الشباب بتكلفة بسيطة في الوقت الذي نظم البعض أعراسا في هذه الصائفة بأرقام خيالية!! من خلال تأجير أفخم الفنادق وآخر طراز السيارات التي انتجتها المصانع الغربية.. في الوقت الذي تقتات فيه آلاف العائلات من المزابل؟!!
.
ولعل ازدحام محلات الألبسة المستعملة الآتية من الغرب في شوارع عاصمتنا تغني عن الأرقام المزيدة والمنقحة التي تتحفنا بها وزارة التضامن لاحقا، وأكيد أن الوضع لم يعد مزعجا لا في منظره ولا في مخبره بحيث لاحظنا البرلمان المحترم مرتاحا لأرقام وزير التجارة حين ذكر بأن الجزائر انفقت أكثر من 13 مليار دولار خلال سنة في استيراد الشيفون واعتمدت أكبر من 3000 محل لبيع هذه السلع ولم يعد الكلام كما سبق بأن هذه نفايات الغرب ويهدد من يجلبها أو يشجع عليها؟!!
.
أليس غريبا أن تظل شريحة المعاقين الذين قارب عددهم الأربعة ملايين في طابور المطالبات بالحقوق وهم الشريحة الوحيدة التي اعترفت لها جميع النظم والقوانين الاجتماعية بالحق في الحماية أم أن هؤلاء ذوو حاجة وجدوا أنفسهم في مجتمع معاق؟!!
.
أليس معقولا أن ترسم سياسة اجتماعية متوازنة بعيدا عن الترقيعات الظرفية والمناسباتية والوعود المزاجية؟!!إلى متى والمجتمع المدني مغيبا على الإسهام الحقيقي في التنمية والديمقراطية؟ إلى متى ونحن نشهد الارتفاع المذهل لأمراض السرطان والضغط والسكري وغيرها دونما اهتمام بحثي وقانوني وهيكلي من أجل تقديم خدمة لائقة في المستشفيات أو العيادات؟!!
.
أليس من أولويات سياسة البلد في مكافحة الفقر أن تعطى الأهمية للعمل من أجل الاختفاء من تصدر قوائم عدم الشفافية، الأمية، الآفات الاجتماعية...؟!!
.
إن الملاحظ لواقعنا المتناقض بين الإمكانيات في الموارد والفقر في المعيشة يخشى أن تنقل المجاعة بيننا من عالم البطون إلى عالم العقول!! وحينها لا يمكن إلا أن نسلم للقدر، لأننا نلاحظ يوميا كيف يعيش المجتمع تحولا في قيم التضامن، التعاون، الأخلاق العامة، التضحية، تحمل المسؤولية، القيم الأسرية، الارتباط بالوطن ...!!
.
فإذا تغيرت ثوابتنا ولم يبق في حياتنا من استمرار سوى آفة الفقر فإن الأمل لا يكون إلا في عملية نهضوية كبيرة تتبناها نخب المثقفين أو السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين لاستدراك ما فات أو الاستسلام للفناء لا قدر الله، كما يقال قديما:
فإما حياة تغيض العدا وإما ممات لعمرك لم تقس بممات
.
الفقر بين الصناعة المحلية والتآمر الدولي:
.
لعل الموضوعية تتطلب منا عدم تعليق مشاكلنا على الغير حين يكون الفساد السياسي منتشرا بيننا، والآليات الديمقراطية مائعة اللون، فاقدة الطعم، كونها في الكثير من الجوانب في مجتمعات العالم الثالث مجرد شبح بلا روح، كما أن عدم التجاوب مع معطيات العصر في واقعنا لا يمكن أن ننتج سوى مزيد من الفقر، وإلا ما الذي يمنع من القضاء على الأمية في عهد وفرة العائد البترولي، هل يعقل أن نجد غزة المحاصرة برا وبحرا وجوا لسنوات بها نسبة الأمية تساوي الصفر في حين نتجادل في الأرقام هل الأميون عندنا ثمانية ملايين أم ستة؟!!
.
وإذا ما نظرنا إلى المحيط الدولي فإن الفقر صار سلاح المرحلة الحالية ولعلها القادمة، حيث صارت مجموعة الثمانية لا يهمها إلا المزيد من تقاسم الأرباح على حساب الشعوب المقهورة، على حساب البيئة المهددة بالاحتراق، والزراعة المهددة باحتكار البذور، والبترول المهدد بالمضاربة، والتجارة المهددة بالاختلالات، وبالتالي تصبح السياسات الدولية لا يهمها إلا ارتفاع المؤشر المتعاكس مزيد من الغنى الفاحش للأثرياء. ومزيد من الفقر المدقع للفقراء، ولعل ما يبعث على السخرية في السياسة الدولية اليوم هو ما شهده العالم كله في العقدين الأخيرين كيف يصنع الفقر ويعمق في العالم الثالث خاصة فلسطين، العراق، السودان، أفغانستان، النيجر بسياسة دولية تزعمها كل من شيراك وبلير وكلينتون وبوش الثاني، نجد أن هؤلاء كلهم بمجرد نهاية ولايتهم يؤسسون مؤسسات أو جمعيات خيرية من أجل مساعدة الفقراء!! وهم الذين كرسوا قوانين الغلبة للأقوياء ولم تنج منهم حتى الطبيعة والبيئة!!
.
ولكن من قال أن التآمر الدولي لا يصنعه ذوو القلوب الرحيمة؟
.
الأستاذ عيسى بلخضر
ممثل النداء العالمي لمكافحة الفقر
----------------------------
الحادي أون لاين

ليست هناك تعليقات: