15 ديسمبر 2009

رسالة الشهر: الأمة ورابطة العقيدة


حركة الدعوة والتغيير
رسالة الشهر: ديسمبر 2009


الأمـــة ورابطـة العقيـدة

قال الله تعالى:(إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء 92.
ليست هناك قضية في التجربة التاريخية للأمة نالت ما يشبه الإجماع ما نالته قضية وحدة الأمة أو الرابطة العقدية للأمة، وليست هناك قضية انبرى لها العلماء تنبيها وتحذيرا من مخاطرها وعواقبها الوخيمة على كيان الأمة من مسألة التفرقة ونوازع التجزئة والعصبية، وقد حرص العلماء والنخب والفعاليات وقادة الرأي على مدار تاريخ الأمة حرصا بليغا على هذه القضية وأولوها الأهمية اللازمة وفق ما قررته النصوص الشرعية في الكتاب والسنة، ورأينا كيف كان المنحى الفقهي عموما يتوخاها في إثبات الفتاوى والأحكام درأ للنعرات المذهبية والنوازع الذاتية، بل على حساب الكثير من القضايا الفرعية التي عادة ما تستهوي الناس، وكيف كيفوا اجتهاداتهم على هذا المبدأ نصرة له وإعلاء من شأنه على نحو يجعل منه هدفا أسمى. فالعالم والداعية وقادة الرأي خصوصا رسالتهم من رسالة الإسلام لا يمكن بأي حال أن ينساقوا مع الطروحات القطرية الضيقة كانت سببا في تفكيك وحدة الأمة التي تمثلها الخلافة عبر التاريخ الإسلامي وظهور كيانات ضعيفة استطاع التحالف الاستعماري التحكم فيها واستغلال خيراتها حتى بعد تحرير أراضيها.
إن وحدة الأمة مصلحة كلية ثابتة وواجبنا في الحفاظ عليها من القطعيات، والنهي عن التشتت والفرقة والعصبية يأتي مقدما على المصالح الجزئية أو الخاصة، فهذا الذي قررته الأصول الشرعية وأثبته العلماء وأكدته الأحداث التاريخية وهذا الارتباط العقدي من أسباب النصر والقوة والمنعة فهو أقوى الروابط لقوله عز وجل (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إن الله عزيز حكيم)، فقد دعا الإسلام إلى هذه الرابطة العقدية لأنها طبيعته ومنهجه فهو رسالة تحرير من كل الإكراهات والارتهانات، وجعل هذه الرابطة بوتقة تنصهر فيها كل الفوارق، فوارق اللون والجنس والفئة والعشيرة وغيرها..، وحرر الإنسان من كل النوازع الذاتية والعصبية والحدية والشوفينية.
هذا الارتباط هو دائرة انتماء حضاري يقر ويعترف بالانتماءات الفرعية والوطنية والقطرية وما شابه ذلك.. ولا يلغيها، بل يهذبها وينمو بها، فلا يمكن لأي دين أن يجرد الإنسان من دواعي الانتماء القطري لشعبه وأرضه ووطنه فما بالك بالإسلام الذي هو دين الفطرة الذي يعترف ويقر بكل هذه المكونات والانتماءات كدليل على التنوع الفطري والطبيعي، فالصحابة رضوان الله عليهم ضمتهم العقيدة الواحدة وربطت بينهم دون أن تلغي انتماءاتهم الأصلية فهذا بلال الحبشي وهذا سلمان الفارسي وهذا صهيب الرومي فانتماءاتهم الأصلية كانت إضافة للوحدة تمثل رسالة الرحمة للعالمين إذ في الرؤية الإسلامية تتعدد وتتكامل دوائر الانتماء، لكنه لا يسمح لها بالتضارب العشوائي والتنازع بل يوجهها في إطار من التنوع التكاملي يمكنه من التفاعل مع الأخر على أسس سليمة ومتوافقة، أو على اقل تقدير يمكنه من التوافق مع الذات في انسجام وتناغم، ومهما تكن نوازع الحياة وضغوطاتها، فإنها تقف عند هذه الرابطة، وتنصهر في بوتقتها في توافق وتكامل، بل وقد ضرب الإسلام أروع الأمثلة في هذا الترابط وبهذه الرابطة العقدية التي لم يشهد لها التاريخ مثالا، صفاء وشفافية وعمقا وتماسكا فكانت دائما وأبدا أوثق الروابط رغم اختلاف الألوان والألسن والأجناس.
لقد وضع الإسلام البعد العقدي كأساس لوحدة الأمة وقيامها والتقاءها ومنحها بدائل أكثر قوة في الحراك الحضاري وحررها من العديد من الارتهانات الفئوية والقبلية والعصبية والعنصرية.
والحياة السياسية عموما بين مسلمين، عنوان دائرة تناصح وتعاون، ولا تفرقهم عصبية مذهب ولا أهواء مصالح.
أما الحياة الاجتماعية هي حالة واحدة من الأحاسيس، هم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم، تراهم في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فلا مكايدة ولا إثارة ولا شحناء ولا غمز ولا لمز ولا تنابز.
ولما قويت هذه الرابطة وارتبطت بمعينها شهد المسلمون القوة والتقدم والنهوض، فهي دليل إيمان وتبصر وتقدم ونهضة، لأن هذا التحرر- من النوازع- وهذا الالتزام –بالرابطة- وفق هذه المعيارية هو الذي يحقق في الفرد والجماعة شروط العبودية (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)، وهو الذي يمكن – الفرد والجماعة- من النهوض بأعباء الحق مع الخلق "الوسطية والشهادة على الناس".
وكما أن الارتباط العقدي دليل إيمان وعقل، إذ كلما قوي إيمان العبد كان أعرف بقيمة هذا الارتباط، فكذلك التعصب المقيت، هو دليل ضعف في الدين والعقل، لأنه يؤدي إلى التفكك الذي يؤدي بدوره إلى ضعف الأمة
(تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون).
فالتعصب والعصبية اختلال في النظرة إلى الذات والى الآخر، فهو انتصار للذات بالحق وبالباطل، ومهاجمة للآخر بالحق وبالباطل، أي دون أن يكون لهذا الفعل ما يبرره من الشرع والعقل والمنطق والواقع، فهذا التعصب وهذه العصبية مهما كان موضوعها سياسيا أو فئويا أو إثنيا أو طائفيا أو مذهبيا أو رياضيا أو.. يؤدي إلى إلغاء الآخر والى الإفساد، وهذا منهي عنه شرعا، وأمر مذموم لأنه نوع من الحمية التي نهانا الله عنها في قوله تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية). فنعيش بذلك أشبه ما نكون "بالغيتوهات" كل من موقعه يتربص بالآخر الدوائر، وكل يضمر للآخر العداوة والبغضاء.
ولهذا ترانا كلما ابتعدنا عن هذه الرابطة العقدية ترانا كأفراد وجماعات ومجتمعات كثيرا ما ندخل في معارك جانبية طاحنة تستنفذ فيها الجهود وتهدر الإمكانات والطاقات، لا نصحو فيها إلا على وقع آلام وتلاومات في الفكر والأنفس والعلاقات.
إننا لا نريد اليوم أن تستحكم فينا ردود الأفعال، أو أن ننساق في المعارك الهامشية، أو نستدرج خارج مسار الأمة، لأن ردود الأفعال دائما وقتية، تعتمد في غالبيتها على العواطف الجياشة طليقة العنان لا تحكمها نظرات العقول تخطئ الوجهة في غالب الأحيان، كونها تفتقر إلى عامل الفكر والرشاد.
وإننا بحاجة اليوم أن نعبر من ذهنية العصبية إلى التوازن، ومن ذهنية التشتت إلى التكامل، ومن النزاعات إلى التوافق، ومن التنافر إلى التعاون وأن يرفع العلماء والعقلاء نداءاتهم نقدا وإصلاحا لأوضاع ينبغي أن تتغير.
كما أن قوة النبض الحيوية في أجيال الأمة وانتشار روح الإرادة والتكامل بين عناصرها المتنافرة بتنامي العزم على معالجة هذه التداعيات ومواجهة الأخطار وتحرير الفعل السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي والرياضي من كل الارتهانات باتت واضحة وأكيدة.
إن الاستجابة لتحديات الأمة الداخلية والخارجية لهو محور نضالنا الأساسي وهو الذي يوحدنا في بوتقة واحدة وهو الذي يدمجنا في عمل مستمر يجمع بين الفكر والعمل وبين العزم والتوكل، كما إننا بحاجة إلى حشد طاقات الأمة وحمايتها من الإهدار أو التعطيل في مواجهة الوهن الداخلي والتسلط الخارجي.
----------------------------
الحادي أون لاين

ليست هناك تعليقات: