9 سبتمبر 2009

فتنة الأمس.. بين منْ أيْقَظَها ومنْ أُُوقِظَ لها

خونا أحمد محمود



ذكر الحافظ الذَهَبي في سيره عند ترجمته للتابعي الإمام الفقيه الحافظ عبد الله بن ذكوان الملقب بأبي الزناد خبرًا طريفًا من أخبار اختلاف النبلاء وفتنتهم، فقال: ((كان أبو الزناد مُعَاديًا لربيعة بن أبي عبد الرحمن، وكانا فَقيهَي البلد في زمانهما، وكان الماجشون يعقوب ابن أبي سلمة يُعِينُ ربيعةَ على أبي الزناد، وكان الماجِشُون أول من علم الغِناءَ من أهل المروءة بالمدينة.
.
قال أبو الزناد مَثَلي ومَثَل الماجِشُون مثل ذئب كان يُلِّحُ على أهل قرية، فيأكلُ صِبيانهم ودواجنهم، فاجتمعوا له، فخرجوا في طلبه، فهرب منهم، فتقطّعوا عنه إلاّ صاحبَ فخار فألّحَ في طلبه، فوقفَ له الذئبُ، وقال: هؤلاء عذرتُهم، أرأيتُك أنتَ؟ مالي ولك؟! والله ما كسرتُ لك فخارةً قطُّ، ثمّ قال: ما لي وللماجِشُون والله ما كسرتُ له كَبَرًا ولا بَرْبَطًا)).
.
والكَبَرُ هو الطبل من أنواع الطبول، أمّا البرْبطُ فلفظ أعجمي يطلق على آلة موسيقية كأنها تشبه (آلة العود) عند أهل الغناء، ويريد أبو الزناد بهذه الإشارات التعريض بالماجِشُون رحمه الله وغمز آرائه المتساهلة في (مسألة الغناء وآلات اللهو).وأنت أيها الأخُ الكريم إذا ما أعرضتَ عمّا في هذا الخبر الطريف من الغمز والتعريض، وذهبتَ تتأمل ما فيه من معانٍ وحِكَمٍ، فسرعان ما سيبرق في ذهنك الفطن مدْركٌ أصيل يهبُك وعيا صحيحا بمذاهب الفتن، ويكتشفُ لك بعضا من محركاتها المسؤولة عن استخفاف (الفتّانين) و(المفتونين) على حدٍ سواء، والتي جعلتهم جميعا ينخرطون في فتنهم دون وعي وتبصّر، بل دفعت المفتونين منهم إلى نوع سَرَفٍ ومجاوزة في التعصب، فاق أحيانا عداوة قادتهم الذين حرّكوهم واستنفروهم، حتى انقلب الواحد منهم بتصرفاته تلك أشد بأسًا وأذىً من (رؤوس الفتنة) أنفسهم، حتى حقَّ عليه بجدارة قولهم (ملكٌ أكثر من الملوك)، وتماهَتْ حالته في التمثيل مع ذاك (الذئب الخيالي) الذي صوَّره لنا في مِخْياله الإمام التابعي أبي الزناد رحمه الله.
.
ورحم الله تعالى أيضا شيخنا محفوظ النحناح، فكم كانت نباهته شديدة، وإشاراته سديدة يوم نبهنا لهذا المعنى وأشار إلى رمزه في عنوان مقالته التي عنْوَنها بقوله (الحركة الواعية بين مُوقِدٍ للفتنة ومُوقَظٍ لها) وهو تنبيه منه دقيق يُلفت إلى حالة مضحكة من أحوال الفتن وأهلها.ولكن ابن القيم أقام لك الموازين وحتى يقف طلاب الوعي من دعاتنا على أساس متين، ينطلقون منه لفهم بعض محركات (فتنة الأمس)، نحبُ لهم في البداية أن يتأملوا طويلاً ويتدارسوا جيدًا معاني هذه القطعة الثمينة من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى، حيث قال: ((الفتنُ نوعان: فتنة الشبهات، وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما.
.
ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فسادُ القصد وحصولُ الهوى، فهنالك الفتنة العظمى والمصيبة الكبرى، فقلْ ما شئت في ضَلالِ سَيءِ القصد، الحاكمُ عليه الهوى لا الهدى، مع ضعف بصيرته وقلة علمه... وهذه الفتنة تنشأ تارةً من فهمٍ فاسدٍ، وتارة ًمن نقلٍ كاذبٍ، وتارةً من حقٍّ ثابتٍ خَفِيَ على الرجل فلم يظفر به، وتارةً من غرضٍ فاسدٍ وهوىً متّبعٍ، فهي من عمى في البصيرة وفساد في الإرادة. وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنة الشهوات... ولهذا كان السلف يقولون: (احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه)، وكانوا يقولون: (احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون)....ففتنة الشبهات تُدفع باليقين، وفتنة الشهوات تُدفع بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين فقال: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) فدل على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين، وجمع بينهما أيضا في قوله: (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات، وبالصبر الذي يكف عن الشهوات،...وجاء في حديث مُرْسَل: " إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات "، فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة والله المستعان))وللقدر والمشيئة والجعلِ الإلهي قولٌ أيضا..ثُمَّ إنّه لمَِنْ دقيق حكمة الله تعالى المبثوثة في خلقه والتي قدّرها بألطافه وعلمه، أنْ شاءتْ مشيئته أن تجعل جعلاً قدريًا بعض الناس فتنةً لبعضهم الآخر، مصداقا لقوله (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) وإنّها لآية كريمة فاذة تستوجبُ - هذه المرحلة - على كلّ ذي لبّ من أهل الوعي تدبرها، ولقد رأيتُ في تفسيرها قولا قديما لابن عطية الأندلسي جاء فيه أن: (..الصحيح فتنةٌ للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الشاكر فتنة للغني، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره، وكذلك العلماء، وحكام العدل...).ونحن على منواله نقول: وكذلك الدعاة وكذلك أبناء الحركة الإسلامية وقادتها.
.
والمعنى المراد: أنّ كلّ ذي عملٍ وشأنٍ يكون دائما مختبرًا وممتحنًا بمنافسة صاحبه الذي يُماهيه ويَشْرَكُه في شأنه ذاك وعمله، وهذا المعنى يمثل حقيقة حيوية من حقائق حركة الحياة، وليس وهما من الأوهام، وعلى طلاب الوعي الذين يطلبون الاعتبارَ من أحداث(فتنة الأمس) أن يدركوا هذا ويكونون منه على بال وانتباه.
.
ومما ذكره علماؤنا في التمثيل لهذه الحقيقة الحيوية، ما رووا من فتنٍ ومنافساتٍ كانت بين الفقيه الثقة الملقب بأشهب – واسمه مسكين بن عبد العزيز- وبين بعض أقرانه وأترابه من تلامذة مالك رحمهم الله جميعا، حيث ذكروا أن الإمام ابن القاسم كان كثيرا ما يتلوا تلك الآية الكريمة حين يرى أشهبَ أو يمرّ بجنبه.
.
وحدثوا أيضا عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه لما سُئل عن رأيه في أشهبٍ هذا، وفي مواهبه وقدراته، قال فيه (ما أخرجتْ مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه) فغضب أشهب غضبا شديدا حين بلغه ذلك، أو حين سمعه، ولم تصبر نفسه أمام هذا التقييم لشخصه، بل اقترف شيئا عجيبا أخبر عنه ابن عبد الحكم فقال: (سمعتُ أشهب يدعو في سجوده على الشافعي بالموت، فمات – والله- الشافعي في رجب سنة أربعٍ، ومات أشهب بعده بثمانية عشر يوما، واشترى من تركة الشافعي عبدا، اشتريته أنا من تركة أشهب...). قال الحافظ الذَهَبي معلقا على هذا الخبر في سيره (ودعاءُ أشهب على الشافعي، من باب كلام المتعاصِرَين بعضهم في بعض، لا يُعبأ به، بل يُترَحَّم على هذا وعلى هذا، ويُستغفر لهما..). أقول تبعا لاحتياطيات الذهبي وعواطفه الإيمانية و(نحن) وإن لهجْنا بالدعاء والاستغفار لجميع إخواننا وأخواتنا الذين انخرطوا في (فتنة الأمس) فإن ذلك لا ينبغي أن يحُولَ بيننا وبين محاولاتنا الكاشفة عن محركاتها، والمحددة لمظانّ الصواب والخطأ فيها، إذ أُراني أزعم أن نيران تلك (الفتن) ما كان لها أن تتوقد وتلتهب لو صبر بعض إخواننا من (محرِّكيها) أمام تقييمات جمهرة واسعة من قادتنا المجربين، الذين تكلموا في قدراتهم وكفاءاتهم (للقيادة الدعوية العامة)، بكلمات ناقدة وصادقة هي أشبه بعبارة الشافعي وكِلْمتِه في أشهب المسكين، الذي انتصبَ بعد ذلك نموذجا من نماذج ضحايا الفتن، ولك أن تتأمل حاله كرة أخرى، لتشهد كيف أن نفسه لم تقنع بموت الشافعي رحمه الله حتى دعته –والله أعلم بالسرائر – إلى شراء خادمه الطبّاخ نكايةً فيه وإيغالاً منه في الانتقام.
.
للفتن ضحايا...وللفتّانين قضاياومن أبرز ضحايا فتنتنا الذين نشفق على حالهم من بعيد هذه الأيام: طارئٌ غِرٌّ من ناشئة الدعاة، قريبُ عهدٍ بالتزام وصلاة، سمع كلمة أو كلمتين نطق بهما (قادة الفتنة) فانخرط المسكين معهم يردد ما يقولونه، ويتكلم في شؤونٍ وقضايا لا علم له بتفصيلاتها ولا جُمَلاتها، ويتَعصَّب لكل ذلك، ويزمجر وربما رفع صوته بالانكار على من كان بالأمس القريب يُرَّبيه ويعلمه ويحْسيه الحساء، أو على من أشرف على ختانه يوم كان صبيا يلهث ويلعب بين أنديتنا الدعوية.وواجب الشفقة والنّصح اليوم، وكذا مسؤولية الكلمة والتوجيه توجبان علينا أن نصارح هذا الناشئَ الصغير وأترابَه بمثل مصارحة أم المومنين عائشة رضي الله تعالى عنها للتابعي الثِقة أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يوم كان حَدَثا وناشئا وانخرط مثلهم فيما لا يعنيه، فحدثنا هو بنفسه عمّا جرى فقال رضي الله تعالى عنه: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟، فَقَالَتْ هَلْ تَدْرِي مَا مَثَلُكَ يَا أَبَا سَلَمَةَ؟، مَثَلُ الْفَرُّوجِ يَسْمَعُ الدِّيَكَةَ تَصْرُخُ فَيَصْرُخُ مَعَهَا، إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ).
.
وقد ذكر الباجي في شرحه على (موطأ مالك) وفي تعليقاته على هذا الأثر الباسم أنه يحتمل معنيين أحدهما: أن أبا سلمة كان في زمان الصّبا، وقبل أنّ يبلغ حدّ الجماع يسأل عن مسائل الجماع ويتكلّم فيها، وهو لا يعرفها إلاّ بالسّماع من غيره، كالفرّوج يسمع الدّيكة التي بلغت حدّ الصّراخ تصرخ، فيصرخ معها. والثاني: أنّه كان صبيّا ولم يبلغ بعد مبلغ الكلام في العلم، إلاّ أنّّه كان يسمع الرجال والكهول يتكلّمون في العلم، فيتكلّم هو أيضا مثلهم.وعليه نريد من ناشئتنا أن يعرفوا قدرهم ويقفوا دونه، وأن يستمروا في توقير من سبقهم فإن الأدب زين كلّه، ولا يغترَّنَّ أحدٌ منهم بصفة (الداعية) التي أطلقتْ عليه تدربيا له وتهيئة، كما نُودي (أبو سلمة) بهذه الكنية منذ كان صبيا.
.
ونريد أيضا من شبابنا ونخص منهم المتعلمين والجامعيين - الذين يؤزهم هذه الأيام بعض إخواننا أزًّا إلى (معارك عدوانية) لا يزكيها الخُلق القويم ولا الرجولة الصحيحة، ويزعم أن يريد أن يُرجح بهم كفة الإسلام - أن يحذروا كلّ الحذر من الانخراط في دوائر (فتن جديدة) لا طاقة لنا بها يهواها (قادة الفتنة) الذين لم يقنعهم بعدُ ما أحدثوه من دمار في نفوسنا التي كان يجمعها بالأمس القريب الإخاء والخلق النبيل، وفي مؤسساتنا التي كانت كل واحدة منها تَهَبُ مجتمعَنا استقراره وسكينته، وهم اليوم يُلَوِّحون من بعيد بمعاولهم وفؤوسهم الهدامة..؟ !! فالله الحافظ.عند حيصات الفتن تظهر معادن النفوس.ومن ضحايا فتنتنا أيضا: داعية من دعاتنا هو أكبر من الأول سنًا، وأرسخُ منه قدمًا، ولكن أجواء الفتن كشفت لنا عن معدنِه وعنصره، فإذا هو (الثقة الضعيف)؛ وأمارة ضعفه عندنا: اسوداد مزاجه، وضيق صدره، بحيث لا يكاد يصبر معك على محاورة أو مراجعة في معرفة تفاصيل ما حدث في (حركة الأمس) بل هو قريب الغضب، ذرب اللسان لا يُبالي ما يقول، وتراه ثابتًا على ترديد لفظة واحدة كأنها جزء من لسانه يرددها ولا يعرف معناها قائلا (الشّرعية للمؤسسات..الشّرعية للمؤتمر الرابع..) ويكرر ذلك مرارا، وإذا حاولتَ أن تُذكره ببعض الموازين الشرعية أو العقلية في التبيّن وتوثيق الأخبار زمجر وقضّب هو أيضا، وأمّا إذا هممت تلطيف أجوائه بشيء من الدعابة والتَبَسُّط الأخوي فستجد ثمة الهجر والمقاطعة والإعراض.
.
ولمثل هذا الطراز من إخوتنا أهدي هذه القصة النادرة التي حدثتْ للإمام مالك رحمه الله مع واحد من أنجب تلامذته اسمه عبد الملك بن الماجشون ابن عبد العزيز - وهو ليس الماجشون الذي سبق ذكره في مستهل هذا المقال بل ذاك عم أبي هذا، واسمه يعقوب بن أبي سلمة وقد جرى لقبُ الماجِشُون عليهم جميعا- وأما قصته التي نعني فقد أوردها الحافظ الكتاني في (تراتيبه الإدارية) وأسند روايتها ثم قال (كانت لابن الماجِشُون نفسٌ أبيّة، كلّمَهُ مالك يوما، بكلمة خشنةٍ، فهجره عاما كاملا، استبعد عليه الفرق بين مسألتين، فقال له – أي مالك-: أتعرف دار قُدامة، وكانت دارا يلعب فيها الأحداث بالحَمَام)، وقيل في تفسير هذا أنّ مالكاً رماه بدار قدامة – وهي دار بالمدينة المنورة تشبه رياض الأطفال عندنا- لأنّه نسبه للصغر واللعب، حين استغرب منه جهله وعدم إدراكه الفرق بين مسألتين طرحهما عليه في مجلس التّعلم والتربية.ومن عجيب أحوال النفوس في زمن الفتن، أن كل من روى هذا الخبر من الرواة يقول أن الماجشون هجر الإمام مالك عاما كاملا، فتأمل أنت خبر هذه النفوس وفتنتَها؟، فكم هي غريبة أحوال الفتن؟ وتأمل كيف ينقلب في أفرانها الحليمُ حيرانا، والعاقلُ بليدا، والقائدُ مَقُودا؟!!.وقد أرتنا أحداث (فتنة الأمس) رأي العين كيف تهاوى أمام ضغْطاتها بعض من كنّا نراه ثقة صدوقا! وكيف اسْتُخفَ من كنا نراه حليما عاقلا!، وكيف تبدّل لنا وتغيّر من كان يلزمنا ويزاحمنا بالرُكَب!، وكيف.. وكيف..؟؟ فسبحان من خلق هذه النفوس وألهمها فجورها وتقواها.وصدق والله في وصفها قول سادتنا من فقهاء دعوتنا حين جلسوا لتدارس أحوالها ذات يوم وفي فتنة مشابهة عصفت بوحدة صف الموحدين، فكانت بليغةً قصيدتهم أو معلقتهم الحادية عشرة المخلدة في رسالة (فضائح الفتن) والتي وإن لم يُحكم أبياتها ميزان الخليل العروضي إلاّ أن معانيَها وكلماتها الرمزية قد أَحْكمها ميزان التجريب العريض.
.
قالوا عليهم سحائب رحمات الله الواسعة: ((سبحان من خلق هذه النفوسْ. أيُّ سر هو سرُّ هذه النفوسْ؟حساسّةٌ.. متنوعةٌ.. متقلبة.بَينا تظنُّها في غاية الصفاء: تهزُّها مفاجأةٌ فتطفو الشوائب.وبينا تعاملُها فتلْمسُ نهاية السُّهولة: تدهمُها قسوةٌ فتدُعها صلدة على أعنف ما تكون القسوة.رضاها يُغلِّفُه غَنَج ودلالْ...وغضبُها يحب الاسترسالْ...بين سِلمها وحَربها يوم، وبين حِلفها وهجمتها ساعة، وبين سَكينتها وصخبها دَقيقة، وبين ظنّيها الأول وَالثاني ثانية.لا تُخفي سيفَها في قُراب... بل هو جاهز.ولا تُلجأ سِهامها إلى جُعبة... بل وَتَرُ قوسها مشدود.))كتمُ للشهادة..أم هي الشفقة المهلكة ومن ضحاياها أيضا: نبيلٌ من أخيارنا أبصرَ كلّ ما حدث وسمعتْ أذنه كل ما قيل، وظهرت له من كل ذلك مكامن الصواب والخطأ، ولكنّه حين كثر اللغط وجاءت ساعة التحاكم، ودُعي للشهادة..تأبّاها، وهرب منها، بحجة الشفقة على إخوته وإخوانه، وزعَم أنه سيلزم داره ويكتم قراره، وطلبَ المسامحة واستأذن في الانزواء إلى أن تهدأ النفوس ولسان حاله يقول: (ائذن لي ولا تفتنِّي)، وظن المسكين أنه بهذه السلبية والسلوك العاجز إنما يهرب من الفتنة.
.
ومثل هذا الطراز من الإخوان ينبغي أن يُنصح ويُحذَّرَ من إثم (كتم الشهادات)، وأما منطقه ومذهبه في التعامل مع الفتن فضعيف، وموازين القرآن ضده، بل فعله هذا في حكمها هو عين الفتنة (ألا في الفتنة سقطوا).ومنهم كذلك: فريق من نبلاء الأعيان والقادة، كانوا قد تحمسوا لخيار صُلحي أسموه (الخيار الثالث)، زكوه وظنوه خيارًا وسطا بين تطرفات، ولكنهم من فرط حماستهم لم ينتبهوا أنهم بهذا الوصف الذي يزعم التّحلم والتّعقل قد ظلموا كلا الطرفين من إخوانهم المتخاصمين لأنهم قد نسبوهم جميعا إلى نوع تطرف واعتداء.ويكفي في بيان عدم صوابية هذا الخيار أنْ قد رفض التحاكم إليه (أرباب الخصومة)، وينضاف إلى ضعفه ومرجوحيته أن موازينه وفلسفته لا تنسجم أبدا مع مقتضيات (الفقه الدعوي في زمن الفتن) الذي يوصي بضرورة فضح الفتن وكشف محركيها، بدلا من كتمها، ومنطق هذا التقرير الآتي وصراحتُه ردٌ على كلّ معترض أو مجادل: قال مشايخ الدعاة يرحمهم الله تعالى في تقريرهم: (ويفكرُ مشفقٌ على وحدة الصف، وعدم خسارة الجماعة للنفر الذين عشقوا الرياسة، بأن يمنحهم ما يبغون، ويسترضيهم، جمعاً للجهود، وحرصاً على كل الطاقات أن تظل في خدمة القضية، ويقول: يريدون الأبْهة والمكانة، فلنعطها لهم، لعلهم يتدربون، وتَعرُكهم الأيام فيفيقون، وتُرهقهم المسؤولية فيزهدون، ولنشركهم في الشورى لعلهم يرشدون، وإنه خلاف بين الأقران! ويستحسن أن نرضي كل الأطراف. ثم ينادي يحث. هيا، هيَا، ليحتضن كل منكم إخوانه، ثم يرجع وقد ظنّ أنه قضى بحله العاطفي هذا على فتنة.إن مثل هذا الاقتراح هو مذهبٌ في سياسة الجماعات خطأ، واجتهاد في التربية غريبٌ، فإن إتاحة الفرصة لغير ذوي الأهلية والكفاية مهلكة لهم، والاستشراف للمسؤولية علامة خلل في التركيب النفسي للداعية، وإنما تنبثق العناصر الريادية من خلال السير انبثاقاً تلقائياً، وتتم تنمية المواهب من خلال منهجية تربوية شاملة، لا من خلال الجري مع تطلعات الفضول، وتلك الطريقة هي من سياسة الحكومات الائتلافية، بحيث تُرضي كل الأطراف بمقاعد الوزارات، وتستحدث لرجال الائتلاف عشرين وزارة دولة ومائة وظيفة استشارية لا تدعو لها ضرورة، بل على حساب حقوق الشعب وعلى حساب النظريات الإدارية، وأما سياسة الدعوة الإسلامية فأنبل وأسمى وأعف، ولا يتقدم فيها إلا القوي الأمين المتجرد) انتهى بلفظه من رسالة (فضائح الفتن).
.
لا تكرهوا الفتن فإنها تحصد المخلطينورد في بعض الآثار الضعيفة حديث جاء فيه: (الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها)، وفهمنا لطبيعة فتنتنا في (حركة الأمس) يدفعنا - حتى لو صح هذا الحديث- لحمل معناه على الفتنة الكبيرة التي قد تطرأ على دين المسلم وعقيدته وتستوجب مثل تلك اللعنة الشديدة.
.
ولذلك سنظل ندعو دائما بالمغفرة لا اللعنة لكلّ (المخلّطين) من أصحابنا الذين أيقظوا (فتنة الأمس) وأوقدوا نارها، وسنعامل أيضا بالمسامحة والعذر كل من أُوقِظَ لها من إخواننا (الطيبين)، أو من تَيقظَ وفَرَكَ عينيه لأول مرة في أجوائها من أبنائنا (الناشئين).وبمثل هذا الفهم الواعي لذلك الأثر نفهم أيضا قول بعض السلف (لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين)، وهو معنى صحيح فيه جريٌ مع القدر الرباني وتبصرٌ في تصريف الله تعالى لشأن الجماعات والأفراد، ونحن لا نتهم إخواننا بكفر ولا نفاق، ولكن حسبنا أن نصارحهم أن هذه (الفتن) قد كشفت لنا و(لمشايخنا) الكثير وبصرتنا بخطواتنا القادمة والحمد الله على كل حال. وقديما قيل أن (نَسْل الخِصام ذميم). ونحن ولشدة خوفنا من تلك الذمامة البادية في وجه الخصام، تعمدنا قولنا (فتنة الأمس) وهو مركب لفظي جديد يُوحي برغبتنا الصادقة في تجاوز هذه الفتنة وتناسيها وتناسي ما تناسل منها، حتى يمضي كل واحد منا إلى طريقه التي اقتنع بها -ويعلم الله تعالى- أننا قد حرصنا منذ الأيام الأولى حرصا شديدا على إطفاء نار هذه الفتنة والأخذ بخطامها إلى مضجعها، وذلك من خلال: دعوة إخواننا إلى تحاكم هادئ في (مؤتمر سليم) بعيدا عن الصياح وفي إطار (أخوي) يشهد عليه (ضيوفنا من المشايخ) ولكن أصحابنا اختاروا الضجيج والصياحْ، وطَردوا شيوخنا الملاحْ، حتى قال أحدهم لشيخ من شيوخي -وأنا أحدث عنه بسندي والعهدة عليَّ- (طُردنا عند الأبواب كما يطرد الكلاب).
.
ثم عاودناهم الكرةْ، ودعوناهم إلى التحاكم هذه المرةْ، إلى (محاكمنا الدعوية) تطبيقا لميزان شرعي مفاده قول الفقهاء (حكم القاضي يرفع الخلاف) ويرجع الإتلاف، ولكنهم بعد أن قبلوا المبدأ أبوا نتائجه وأحكامه؟!!.
.
ثم جاءت بعد ذلك فرص أخرى كثيرة، فبادرناهم الكتابةْ (ولم نتلق منهم الإجابةْ)، وتدخل (القادة والسادة) فكاتبوا هم أيضا وراسلوا، ولكن إخواننا مرة جادلوا، ومرة عاندوا وأخرى تحايلوا، ورابعة تآمروا على رفض "القرار"، وزعموا أنهم قد "قطفوا الأزهار"، فلما طال عمر الشقاق وقع بين وبينهم الطلاق، وهُم اليوم لا يزالون يَدّعون الجمال ويزعمون "الشرعية" لتلك "الليالي الشهباء" التي نصبنا في أوديتها خيامَ التشاور، إلى أن عصفت بأوراقنا الدعوية رياح التخليط والتزوير.. فحقّ على "مؤتمرنا " وصف سادتنا في معلقتهم حين قالوا: (أوراقي مبعثرة... يتناهبها الأطفالوأقطف الأزهار... وأدعي الجمالخلعت ردائي... إذ أشكو البردونصبتُ خيمتي في وادي العواصف...في ليلة شهباء...ثم أعجب من أين يأتيني السعال؟)والآن فلنترك القيل والقال، فدواء العيِّ منا السؤال، أما (دواء السعال) المذكور فسينزل على أهل الوعي الأوفياء في قادم الأيام إن شاء الله تعالى، وحسبنا أن نفترق مع أصحابنا على أنها فتنة وخلاف حول (منهج وقيادة) وليست حول (إيمان وإسلام)، ولتتسع الصدور وصدورهم لهذا المعنى، وليمض كل واحد منا إلى عمله الدعوي بحسب (المنهج) الذي اختاره ولنتعاون في المتفق عليه كما قلنا مرارا.
.
وأما السائرون معنا نحو الهدف فعزاؤهم وعزاؤنا فيمن فقدنا من إخواننا وأخواتنا فسيجدونه إن شاء الله تعالى في قول الحكيم القادر سبحانه (عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم)، وربما يعمّنا سبحانه برحمته –فمن يدري- فيكون اللقاء مجددا مع بعض الأخيار، إذ القائم في الفتنة (خيرٌ) من الماشي فيها، والماشي فيها (خيرٌ) من الساعي، ومن أُوقِظَ لها (خيرٌ) ممن أوقدَ نارها، والسـلام.
-----------------------------

ليست هناك تعليقات: